بصائر نافذة

شيماء بنت سعيد الرقادية
ليست العيون وحدها ما نرى به العالم، بل العقول والقلوب أيضًا. فكم من مبصر لا يدرك، وكم من أعمى يرى الحقيقة أوضح من غيره. البصيرة ليست ضوءًا يسقط على الأشياء، بل وهج ينبع من الداخل، يمنح صاحبه قدرة على فهم ما وراء المشهد، والتقاط الإشارات التي تغيب عن الآخرين. وقد قال الله تعالى: “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” (الحج: 46)، فالبصيرة نور القلب الذي يكشف حقائق الأمور، لا مجرد رؤية سطحية تخدع صاحبها.
الحياة مليئة بالخيارات، وبينما يسير بعضهم مدفوعين بالعادة أو الخوف، هناك من يشقون طريقهم ببصائر نافذة، يرون الفرص وسط الفوضى، ويقرأون المستقبل في تفاصيل الحاضر. يقول المتنبي في واحدة من حكمه الخالدة:
الرأيُ قبلَ شجاعةِ الشجعانِ … هو أولٌ وهي المحلُّ الثاني
فالرأي الصائب والبصيرة النافذة تسبق القوة والشجاعة، ومن امتلكهما معًا، فقد امتلك مفاتيح النجاح. في عالم الأعمال، البصيرة ليست رفاهية، بل سلاح؛ هي الفرق بين مستثمر يتبع القطيع وآخر يصنع القطيع، وبين قائد عادي وآخر يغيّر مجرى التاريخ.
البصيرة أيضًا درع، تحمي صاحبها من السقوط في فخ التصورات الخاطئة، أو الانقياد وراء السائد دون وعي. إنها القدرة على رؤية الصورة الكبيرة دون فقدان التفاصيل الصغيرة، على الجمع بين الحكمة والحدس، وعلى الإصغاء للصمت بين الكلمات. وقد قيل قديمًا: “ليس كل ما يلمع ذهبًا”، فكم من بريق زائف انخدع به الغافلون، بينما صاحب البصيرة يلتقط الجوهر خلف الأضواء.
البصيرة ليست مجرد ميزة، بل مسؤولية. من يملكها لا يستطيع أن يتجاهل ما يراه، ولا أن يغمض عينيه عن الحقيقة. هي النور الذي يكشف الطريق، لكنه في الوقت نفسه، يجعل صاحبه يدرك وزر المعرفة وثقل الإدراك. وكما قال الإمام عليّ رضي الله عنه: “ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل من يعرف خير الشرين.”