ثريا العذالية
أكتب الشعور، لأن آلام الذكرى لا تسقطها إلا الحروف.
وسط كومة من الكتب القديمة، مهترئة الصفحات، شاحبة اللون، تكاد أطرافها البالية توحي بالحزن العارم الذي أوهن روح صاحبها، عادت بي تفاصيل الحروف المبللة بالدموع إلى ذكرى الثالث عشر من كانون الثاني لعام ألفين وتسعة عشر، حتى فشلت لدي جميع محاولات البحث عن طوق النجاة من تلك الليلة الموحشة. إنه اليوم الذي أسرد تفاصيله والعبرات تخنقني، ولا مفر لدي سوى الرضوخ للواقع المرير.
نهار كئيب ليس كباقي أنهر الشتاء الدافئة، غموضه المريب ينذر بعاصفة رعب قاتلة، ووحشة نسمات ذلك اليوم تتسلل في أضلاعي الواهنة، يوم شعرت من بؤسه أني أعيش سنة من ظلام دامس في مدينة يرفض السلام أن يعم أرجاءها، تزهق فيها الأرواح، ينطفئ بريق الشوارع، تستبد ضحكات الأطفال وتعدم أحاديث الكبار، فأصبح الموت غاية كل من فيها. نعم! إنه اليوم الذي أبت فيه خيوط الشمس أن تشرق صبحًا آمنًا في صدري، ففيه ظهرت الحقائق وتلاشت الأقنعة، حين علمت يا رفيقتي أنكِ ما كنتِ كما حسبتكِ ملاذي الآمن الذي أستنجد به كل ما عصفت بي الحياة في مسار شائك لا نهاية له.
يا رفيقتي، إن روحك الهابطة التي ما إن دخلت على قلب أفسدته جعلتك تحيكين الحقد -الذي أورثته قلبك- في خيوط ماكرة، تستهدف قلبا أغدقك حبا وهباك من عظيم شعوره سكنًا آمنا، يلملم شتاتك كل ما جارت بك نوائب الدنيا وحكرتك ضيقا وأسى.
و لعل أشد ما قد يصيب روح المرء يا رفيقتي، التخبط الذي يصيب ذاكرته في كل مرة يلجأ فيها لانتشال روحه من الغرق المميت في ذكرى عابرة، تلك الذكرى التي تعري صاحبها وتجعل ملامحه تلفظ ما جاهدت الروح بكل ما أوتيت من ثبات لحبسه.
إنها الذكرى المريرة يا رفيقتي، ذكرى كانون الثاني من دفعت روحي السامية أن تتنزل لإحياء نص لمن لا نص يستحقها، فسحقا لتاريخ جمعني بك، والحمدلله حمدًا تامًا لعثرة أزاحها الله من طريقي ورحمات انتشلتني من قاعك المظلم إلى فسحة من الضياء، متدفقة من عنان السماء إلى جوف قلبي المتهالك، فأحيته ربيعا مزهرًا مثمرًا بعطايا الله وخزائنه العظيمة.
وخاتمة الشعور يا ألمي، سبحان فالق الحقائق من قبور أصحابها، جابر القلوب بعد هلاكها، محييها أملا و رجاء لفصل جديد يخلو منكِ.
وعلى مرسى الأحزان نفترق ومنه نختم جل الذكريات وأعمق المشاعر، فأمرُّ ما في الدنيا يا رفيقتي طعنة من مرارتها عجز القلب أن يمحو أثرها.
