كوب الماء… ..” تراجيديا السنين.. والعطش”
بقلم : سعيد البريكي
حين تصحو من سبات الأمس.. وتنظر للقادم بشغف الحالم.. وغبطة الباسم الذي ارتوى بمواقف رسمها الأمل حكايات وردية في مشوار طويل..
ثم تُصفع بمواقف خيبة أمل رمادية دسها هذا الزمن العتيق… تُدركُ أن هذه الحياة ليست سوى مدرسة تلقنك دروساً صنّف ألوانها بنفسك…
وابتع منها ما شئتْ…
_ _ _ _ _ _ _ _
يخطو بخطواتٍ متثاقلة ساقتها لمكتبي أرجله الثلاث التي تباعدت مسافاتها مع كلِ وقعٍ احتسى مرارة الزمن اللقيط.. ورسمه عنفوان ماضٍ أرعن..
كانت عصاته الغليظة ترتسم كقدمٍ ثالثة أرهقها بقبضته العنيفة
سمِعْتُ المنسق يقولُ له تفضل معي..
رد عليه بلكنةٍ خنقتها البحة وأرهقتها السنين :”باغي المدير”؟؟
أُحضِر لمكتبي يستند بيمناه على عصاته الهرمة وبيسراه على يدِ منسق المدرسة ، لا يُسمَعُ من خطوه سوى أنين أنفاسه التي أخالها عدّت الثمانون سنة وأكثر..
وأكثر حتى من عُمر المدرسة التي أُديرها حينذاك.. وكانت تشتم روائح القِدم..
قُمتُ من مكاني استقبله واستقبل سنواته العجاف التي حفرت على تقاسيم وجهه أخاديد عميقة..
أجلسناه على الكنبة العريضة..
أخذ نفساً عميقاً أكمله بتنهدات تَعِبة قصّت لنا حكايات السنين الفائتة…
” أنا فلان “..
هكذا بقوله كسر صمت الأجواء..
“وباغي اشتكي”!!
ابتسمتُ قليلاً واتكأتُ على الكرسي ،
فلطالما كانت المواقف التي استقبلها هي من هذا النوع…
وتتفاوت نماذج عديدة بتفاوت وتباين المجتمع المحيط ، وثقافات قاطنيه..
خاطبه المنسق :
تشتكي ممن؟
رمقه بنظرة عصيبة خافِتة وأردف :
” باغي المدير”!!
تمتم المنسق في أذني :
” ربما أنه لا يسمع”
أدركنا حينها أنه كان لزاماً أن نكبُر أكثر وأكثر حتى نحاكي الكهل الهرم..
اقتربتُ منه كثيرا.. وقلت له :
” أنا المدير _ تفضل يا عمي”
ربما سمعها جيداً جداً ولطمني بصوته المبحوح يجهش بكاءً : “باغي اشتكي من ولدي”؟
_ شتاء يناير كان حاضراً وقتها ولا ينقصه سوى أن نستوعب أكثر مما استوعبنا..
فقلما مر علي موقف أب يشتكي من ولده..” وأكون القاضي”
_وأين ولدك ياعمي؟
أجاب بصوت محروق :
” معكم فالمدرسة”
طلبتُ بيانات الابن.. فأُحضر لي يرتجف متسمراً بعمرٍ لا يزيد عن ال13 عام خالطتْ أعوام أبيه الثمانين.. ولون بشرته.. ونظرته الساكنة..
رمقه أبوه بنظرة تحايل وأسف خلّفت قطراتٍ من الدمع والشكوى..
قال لي باكياً :
يرفض اعطائي كوب ماء كي أشرب! وأنا لا استطيعُ المشي!
بل ويخرج عني بصوتٍ عالٍ مستنكراً طلبي..
يخرج ولا يرجع إلا متأخراً وأظل أنا أزحف حتى مصدر الماء لاشرب..
” هو ولدي الوحيد”
وأمه ماتت منذ سنين…
الابن تارة ينظر لأبيه وتارة أخرى لي.. دون أن تتحرك شفتاه..
بينما يداه مدفونتان في جيبيه يمنةً ويسرة..
تراجيديا الزمان والمكان ترسمان قصة مثلى من قصص العقوق التي لا تُرى سوى في الأفلام وخيالات المخرجين..
مر الوقتُ علينا ونحن نستحضر العِبَرْ والآيات والسور علّها تغرس في سلوكه أن من يقبع بجانبه الآن هو ما تبقى له من روائح الجنة التي فقدها غيره..
قفل الكهل عائدا لبيته.. محملاً بأمنيات الوعود..
وب80 سنة مرت عليه كلحظة الفجر الفارقة..
وابتسامات الأب الحالم..
انقضت الأوقات .. سريعاً..
وظل “الكهلُ” يتردد علينا شهرياً تسبقه الدمعة قبل الخطوة..
ومع كل عودة.. يزداد انحناءً وسُمرة..
ودمعات يأس..
“وشكوى كوب الماء”
ومع كل زيارة.. كنا نستنفذ أساليب العلاج.. والترهيب والترغيب..
ولا جديد من مشاعر تحرك دواخل هذا الابن..
سوى نظراته الصامتة تجاه الكنبة التي يجلس عليها أبيه..
انقضى الشتاء..
وأقفل شهوره الباردة اللطيفة التي احتوت زيارة هذا الكهل ومعه دمعاته.. وعواطفه..
وأقبل صيف” مايو” محملاً بالغبار..
انتظرتُ “الكهل” الذي تأخر هذا الشهر على غير العادة..
قيل لي قد ” فارق الحياة” منذ أيام..!!!
وكأنه انتظر عطش “الصيف” كي يرحل…
نعم قد رحل..
تاركاً ما لا يُحكى ولا يُقص..
وما لا يرثى.. وما يُرثى..!!
واليوم..
وبعد خمسة عشر عاماً منذ ذاك الوقت..
وأنا استرجع الكنبة العريضة..
“وصيف مايو ”
كنتُ أسألُ نفسي :
” هل رَحَلَ الكهلُ عَطِشَاً”!!