اللوحة المُغشّاة
خميس بن محسن بن سالم البادي
ضحى ذات يوم يممت وجهي شطر خان الولاية و أنا أُمنّي النفس بابتياع بعض مستلزمات البيت دون أي عناء، طالباً نحو ذلك التوفيق و التيسير من الباري جل في علاه، و ما إن ولجت حرم الخان و أنا ما زلت في سيارتي أتطلع إلى مكان أركنها فيه، إلا و الكل ينادي عليّ كي أتبضع من محله دون علمهم بما في نيتي و ما هي رغبتي من تواجدي في المكان، لكنها هي عادة اعتادتها هذه الفئة من البشر التي قد تروق عادتهم و تصرفاتهم هذه لبعض المتسوّقين بينما يمقتها البعض الآخر الذين أنا أحدهم الذي يمقت ذلك منهم، فيما يعتبرها أصحابها أنها تنم عن مفهوم لطريقة استمالة المشترين، في حين أن إبن البلد على النقيض من ذلك فأينما تواجد نجده كبائع ملازماً لمكانه دون أن يبارحه متطفلاً على خصوصية الآخرين أو التسبب بأذيتهم و لا شك أنه هو من يستحق الدعم لاستمراره في ممارسة التجارة كما كان الآباء من قبلنا كذلك يفعلون.
على أية حال، أوقفت سيارتي في المكان الملائم و ترجلت منها لابتياع مستلزماتي وكان المتجر الأول من مجموعة المتاجر الملتفة حول بعضها هو وجهتي، فقابلني حينها عامل المحل بابتسامته العريضة مرحباً بي باهتمام مبالغاً فيه برهانٌ عن رغبته الملحّة بالتسوّق من متجره، حتى بدا كأنه على معرفة سابقة بي و هو كذلك فعلاً بعدما ذكّرني معرّفاً بنفسه بأنه (؟؟؟)الذي كان متجره بجانب مطعم(؟؟؟) فتذكّرته فوراً لتبضعي المتقطع من محله وقتئذ مؤكداً لي أنه انتقل إلى موقعه هذا لرحابته رغم غلاء إيجاره الشهري قليلاً عن سابقه لكنه الأكثر ارتياداً.
محدثي هذا من إحدى جنسيات شبه القارة الهندية و الذي هو الأعلى رتبة في الدكان من قرينه الذي أمره بتلبية توفير احتياجاتي، فحددت مبتغاي من السلع التي جئت لشرائها وقبيل المغادرة تذكرت سلعة أخرى ضمن السلع المطلوبة يبدو أن الشيطان أنساني إياها، و لا أخفيكم سراً أن تلك السلعة كانت هي(حَب الهال)، فسألته عن سعر الكيلو جرام رغم عدم حاجتي لهذه الكمية، فجاوبني بأنه بـ(ثمانية عشر ريال عماني) مؤكداً أن البعض يبيعه بعشرين ريال عماني، (هذا رغم صغر حجم حبوبه)، فسألته دهشاً عن ارتفاع السعر هكذا ليأتي الجواب أدهى و أمر من قيمة السلعة، حيث أعلمني قائلاً- هذه السلعة لا توجد في السوق حالياً لغلق الحدود مع دولة الجوار، و أن الكمية الموجودة هي متبقية من السابق، إذاًُ معنى ذلك (الاحتكار بعينه)، فسألته و لما الاعتماد على الاستيراد من دول هي أساساً تستورد هذه السلع بينما يمكننا الحصول عليها من الداخل من خلال المستورد و الموزع المحلي، مؤكداً له قدرة صاحب العمل الذي شاهدت إسمه تتراقص عليه ألوان الطيف في خارج المتجر من واجهتيه الأمامية و الجانبية، و الذي يزدان بهاءً مع انعكاس ضوء الشمس عليه نهاراً و الأضواء المختلفة ليلاً، في تزويد متجره هذا بما يحتاجه من البضائع من الموزع المحلي و هو أعلم بالموزعين و المزوّدين في مختلف محافظات السلطنة و حتى دول الجوار حال تطلب الأمر ذلك، فتكشّفت حقيقة أخرى من خلال جوابه ليست بجديدة علينا جميعاً ألا و هي اللوحة المغشاة التي تعرف بـ(التجارة المستترة)، حيث أخبرني الرجل بأن صاحب العمل ليس مسؤولاً عن ذلك البتة، و إنما هو بمثابة إجازة لممارسة النشاط فقط، مؤكداً أنه هو المدير و المسؤول و البائع بالدكان بمعاونة بضعةٌ من نفر له من مواطني بلده بينهم ذلك الذي ساعد في كيل و تكييس ما كنت أبتاعه، مضيفاً أنه هو من يتولى أمر توفير السلع بالمحل و أنه لا يمكنه كأجنبي البحث عن الموزع المحلي و التعاقد معه، منوّهاً إلى أن كل السلع التي يموّل بها متجره يأتي بها الناقل بشاحنته من الدولة المجاورة دون أي عناء و أنه ما عليه سوى إملاء على ذلك الناقل بما يحتاجه من البضائع لتصله في غضون أيام قلائل جداً دون أن يكلّفه ذلك عناء السفر، و أضيف أنا(و البحث عن السلع و مدى جودتها و صلاحيتها و طرق حفظها و خلافه، وعدم مدى أهمية تدوير و تداول المال الاقتصادي في السوق المحلية لديه فهو و قومه بنهاية الأمر جاءوا يسترزقون لذاتهم و ليس لتقوية شوكة اقتصاد عُمان و دفع عجلته في الداخل العماني).
و من واقع حديثي مع (؟؟؟)، يبدو أنه و للمعرفة المسبقة بيننا استساغ الحديث معي و حين شعرت باطمئنانه لي ولجت معه في بعض خصوصياته المتعلقة بإقامته و عمله في السلطنة فأسرّني بالقول قائلاً:-
بأنه قَدِم إلى السلطنة منذ(31) عاماً بإقامة عمل مع صاحب مؤسسة للعمل كموزع مواد تموين غذائية بمهنة حمّال و براتب شهري قدره(سبعين ريال عماني) مع توفير له المسكن دون المأكل، وبمضي سنتين دخل شريكاً مع اثنين من أبناء وطنه و افتتحوا متجراً للمواد الغذائية مع استمراره هو في عمله السابق، و كانت مؤسسة صاحب عمله ضمن المؤسسات التي تزوّد متجرهم الجديد، و بعد تسعة أشهر من عمل المحل بدأ يحصد ثمار شراكته التي بدأت بثلاثمائة ريال عماني لأول مرة ثم بعد كل ربع من العام أخذ يقبض من (خمسمائة ريال عماني إلى سبعمائة ريال عماني)، و بعد ستة أعوام استبدل مهنته إلى بائع مواد غذائية مع صاحب عمل آخر و أنهى شراكته مع مواطناه في متجرهم، و استقل بذاته مؤسساً لنفسه دكاناً بنشاط بيع المواد الغذائية و الخضروات و الفواكه و اتفق مع من بإسمه (اللوحة المغشاة)- صاحب عمله باستقدام اثنين من العمالة هو انتقاهم من بلده و أتى بهما للعمل معه في المتجر، مضيفاً أنه بمرور الأشهر و الأعوام افتتح متجر آخر ثم ثالث و لكل متجر يتوفر له من ثلاثة إلى أربعة عمال يستقدمهم من وطنه باختيار منه شخصياً لهم، حيث يصلون السلطنة بواسطة السجل التجاري لصاحب عمله، مؤكداً أن صافي دخله الشهري من متاجره الثلاثة بعد سداده لكامل المترتبات المالية و رواتب العمال هو ما بين ثلاثة إلى أربعة آلاف ريال عماني، منتهياً بحديثه معي إلى أن لديه أربعة صهاريج لشفط مياه المجاري و الصرف الصحي صافي دخلها الشهري هي الأخرى من ألفين إلى ألفين و خمسمائة ريال عماني، و أنه راهناً مسؤولاً عن عدد تسعة عشر عاملاً جلهم من جنسيته و تتفاوت رواتبهم الشهرية ما بين مائة و عشرين إلى أربعمائة و خمسين ريال عماني، و دعاني فضولي هنا لسؤاله عن مصلحة صاحب اللوحة الجميلة من مجمل ذلك، فأبلغني بما يندى له الجبين(ثمانمائة ريال عماني بعد كل عامين من كل عامل و مائتي ريال عماني عند تجديد عقود الإيجار لكل متجر مع تزويده ببعض المواد الإستهلاكية بنهاية كل شهر حسب الاتفاق بينهما،، شكرت (؟؟؟) و غادرته مودعاً إياه و في الذهن تدور عدة علامات استفهام و تعجب، طالما صافي دخل وافد ما يقارب الستة آلاف ريال عماني أو يزيد كل شهر، في الوقت الذي نراه فيه أمامنا أبسط مما يمكن أن نتصور و نتخيّل في حياته و عيشته، للدرجة التي يكتري خلالها وسائط النقل العامة لتنقله.
إذاً ماذا يضير صاحب اللوحة التجارية البراقة لو أنه أدار متاجره الثلاثة و صهاريجه الأربعة بنفسه لا سيما و أنه غير مرتبط بوظيفة أخرى كما عرفت و الذي ليس بحاجة للوظيفة أساساً مع هذا الإيراد المبارك، وأتى بأبنائه و أقاربه لمساعدته في الإدارة و حبب إليهم التجارة و الكسب الحلال الذي سيباركه الله تعالى مع الأيام لا شك، واستعان فقط بالوافد في ذلك ليكون مؤتمراً بأمره في صف و رص و نظافة السلع و المتجر، و آل إليه ذلك الإيراد المالي الصافي، ثم ماذا لو هرب (؟؟؟)دون ان يفي بالتزاماته المالية التي قد تصل إلى عشرات الآلاف من الريالات للشركات الموردة مع مترتبات الإيجار و استهلاك الطاقة الكهربائية و المياه و ربما رواتب العمال، و قد حدث ذلك مع البعض فعلاً و تكبد صاحب العمل خسائر مالية طائلة ذنبه الوحيد في تحملها اللوحة المغشاة، و لا ريب إذاً أنها مأساة يعاني منها المجتمع العماني نظير هذا النوع من التجارة التي نأمل أن تختفي تماماً و تعود أمور ممارسة التجارة للعمانيين كسابق عهدها قبل عقود مضت من الزمن و من ولوج الوافد في هذه المهنة التي كنا سبباً في إسنادها إليهم، كما و أن للحكومة الدور الأبرز و العامل المهم و الفعال في إيلاء كافة ولايات السلطنة أهمية رفدها بكل السلع من الداخل و ليس كما أخبر عنه(؟؟؟) من حيث إتيانه ببضائع متاجره من موزعين بدول مجاورة.
و لي أن أقف وقفة احترام و تقدير لما ذكرته الكاتبة عائشة السيفية قبل أيام من خلال مقالها المستفيض و المنشور بمجلة الفلق الإلكترونية عبر موقع تويتر و المدعم بالأرقام عن حقائق الجالية الهندية في دول مجلس التعاون عامة و السلطنة بوجه خاص، و قوّة تغلغل هذه الجالية في الأسواق و المجتمعات الخليجية و سيطرتها على التجارة و الاقتصاد و ما قد ينتج من ضعف المورد المالي في السوق المحلية نتيجة الحوالات المالية الضخمة التي تغادر البلد للخارج عن طريق العمالة الوافدة عموماً.. فحفظ الله عماننا الغالية أبية عزيزة شامخة بإذن الله تعالى و هي تُبنى و تتقدم دوماً بسواعد أبنائها المخلصين..