الأنانية والغيرية : أنا أفكر، إذن أنا موجود لوحدي…
ذ.يــوسف الكطــابي
لطالما كان ” الكوجيطو” ملهم الكثير من المفكرين الشباب المولوعين بالفكر الفلسفي الحديث، ولطالما قد تعرفنا على الإنسان الفرنسي – من خلال أعمال فولتير وفيكتور هوغو…وغيرهم- على حد سواء والأوربي عامة، إلا أننا نجد أنفسنا أمام فيلسوف محنك اسمه رونيه ديكارت (1596- 1650)René Descartes ، قد أسس لمفهوم الذات الواعية الخارجة عن طاعة الفكر الأرسطي.لكن ما يروج في عالمنا اليوم، من خطابات تصاحبها القومية والنزعة المتعجرفة في الفكر الإنساني الكوني (خطاب شفهي أو مكتوب…)، دفعنا إلى إعادة قراءة الكوجيطو “أنا أفكر، أنا موجود” من جديد،إذ يمكن أن نسميها قراءة في خضم الأزمة الوبائية.
كل هذا خلق فينا تساؤلات عميقة حول مفهوم الذات ومفهوم الغير:
هل كل من الذات والغير يحضران معا في صراع أو بالأحرى في جدلية العبد والسيد الهيجيلية، أم هذا الجدال في أساسه نزعة لانتصار الذات عن الغير؟هل أمكننا الحديث عن فهم مقصود لكوجيطو رونيه ديكارت أم أن الغير ظل دائما مجرد شعار مفكر فيه من طرف الذات الأوروبية ؟
ننطلق من الكوجيطو وهو أساس بناء مفهوم الذات الديكارتية، هذه الذات، حقيقة وإن قلنا عنها ذات واعية فإنها متعجرفة ومنغلقة حول نفسها، ” أنا أفكر”، فليس معناه أن كل الذوات (إن صح التعبير) قادرة أو بإمكانها التفكير، فهي أساسا ذات مفكرة لوحدها على الرغم من أنها تستنبط مبادئ المعرفة الأولى من النور الإلهي الذي أودعته الفطرة الإلهية في الناس جميعا بدون استثناء، وتنطوي هذه “الأنا أفكر” على نزعة الإحساس بالأنانية،والاستثناء،والاستعلاء عن الآخرين، وكأننا في الحديث عن صراع العرق المقدس، فما نفهمه اليوم هو أن هذه الذات التي أسس لها ديكارت منذ قرون، تحمل في طياتها بعدين؛
الأول،يمكن أن نفهمه في سياقه، أي في سياق الفترة الحديثة التي توفق روني ديكارت في إبرازها، وهي التي انتقل من خلالها الإنسان الأوروبي، من مرحلة السيطرة والتبعية للكنيسة ولمخلفاتها الفكرية، إلى مرحلة بناء الذات الواعية القادرة على إثبات وجودها في استقلالية تامة عن الغير (رجال الكنيسة).والثاني، أن هذه الذات أصيبت بأمراض (نفسية) سيكولوجية، جعلت منها تلك الذات المريضة التي يمكن أن تعطي الشرعية للإنسان، بالتعالي والفخر المبالغ فيهما.
من جهة أخرى، وإن تسامحنا مع الكوجيطو الديكارتي للسبب الأول على حساب السبب الثاني، فإن الشق الثاني من الكوجيطو “أنا موجود”، يثير فضول المتابع والقارئ .
هذا الوجود الذي استندت إليه الذات الواعية، يُساء فهمه عند الكثيرين، ونقبل هذه الإساءة من الأشخاص الأبعد جغرافيا(كدلالة عن القرب والبعد الفكري لفلسفة رونيه ديكارت) عن موطن رونيه ديكارت، ولا تقبلها ممن هم في معقل موطنه. ف”الأنا الموجودة” هي موجودة بناءا على الفكر، وهذا الأخير هو الذي مكّن تلك الذات من الوجود، ولو ظن أو اعتقد روني ديكارت أن هذا الكوجيطو سيكــرّس نزعة من الاحتقار للإنسانية في حياتنا المعاصرة، لأمكنه اتباع تعاليم مدرسته اليسوعية، ولكان أفضل القساوسة في زمانه.لكن ديكارت أسس في الفكر ما يسمى بوحدانية الذات، بمعنى وإن صح التعبير ” أنا وحدي موجود”،وهنا تجد كل ذات أنها مكتفية بذاتها،وتملك حقيقة وجودها أو يقينها بشكل ذاتي وفردي عبر عملية التفكير، إذ سيغدو معها الإنسان، ذاتا واعية دون الحاجة للغير، حتى وإن كان الغير مشابها لها، ويعيش ويشترك معها نفس الوضع البشري.
إن ديكارت يؤسس للتجربة الجديدة،وذلك من خلال تجربة الذات الحاملة للمعرفة الفطرية، التي قد تمنح للأشياء وجودها أوتلغي ذلك الوجود، لأن وجود هذه الأشياء رهين بعملية التفكير، والوعي، وممارسة الشك، ومادام الشك ممارسة ذاتية وفردية لا تمارس بالتبعية أو بالنيابة،فإن ما يتم إقراره، هو وجود الذات المفكرة بشكل فردي وفقا لمبدأ الكوجيطو” أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود”.
إن الآخر (الغير) هنا يبقى موجودا، لكن وجوده لا يهم الفكر، ويعده هذا الأخير في مصاف الأشياء والموضوعات التي تدرك بالحواس فقط،وهنا ما يؤكد قول ديكارت ” لو نظرنا إلى الناس من نافذة وهم يتحركون في الشارع فماذا نرى أكثر من المعاطف والقبعات التي تكسوا أشباحا أو ناسا باهتين يتحركون بواسطة دوالب ؟”،فصورة الغير إذن؛ تبقى عند رونيه ديكارت شكلا هندسيا،لا اسما ولا دلالة له بالنسبة للذات، أي أن الغير يظل صورة افتراضية خارجة عن الممارسة الفكرية.
لازلنا نشتكي من هذه ” الأنا” المنغلقة حول ذاتها -إذ لم نقل “ذات مغرورة”- رغم المحاولات الفلسفية التي أخرجتها من جحرها وانفتحت بها على الغير.
نجد الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل (1770-1831م) في حديثه عن مفهوم الغير، والذي نعته أيضا ( أي الغير) جون بول سارتر ب”الجحيم”،والذي تحتاجه الذات من أجل إدراك ذاتها وفهم كينونتها.هو ذاك الغير الذي يشبهنا(كوننا إنسان ننتمي جميعا للنوع الإنساني)، ويختلف عنا(كوننا أفارقة (نسبة للقارة الأفريقية) أو فرنسيا أوروبيا، (مثال فرنسا كدولة متقدمة في جميع الميادين، الفكرية والفنية…. الثقافية)، هذا الغير ضروري بالنسبة إلي بشكل حتمي وليس اختياريا، وسيكون الاعتراف بهذا الغير أمرا ضروريا بناء على المبدأ الأول، واختياريا باعتماد المبدأ الثاني.
إن البعد الأول سيكون فيه الغير ذاتا واعية مستقلة بوعيها، وينظر إليها ك”غير” يختلف عنا، ويشبهنا، ونتشارك معه مجموع المحددات الماهوية الثابتة، أي أنه يملك ماهية تجعل من الاختلاف والوحدة أمران ممكنان فيه وفي الآن نفسه.أما البعد الثاني؛ سيكون فيه الغير، كما هو مستخلص من موقف رونيه ديكارت، عبارة عن معاطف،وقبعات، تكسو أشباحا متحركة، أو مجرد أجساد باهتة تتحرك، وأحيانا أخرى مجرد فئران للتجارب العلمية، وهنا ستكون الذات (الأوروبية) هي محور المعرفة، والغير مجرد شيء لا طائلة منه .
من خلال هذه الملاحظات يتضح معنا أن الذات تعود إلى الغير في حالة الحاجة لفهم ذاتها والإحساس بكينونتها، وتنفيه مرة أخرى، في اللحظة التي ترفض الذات الاعتراف بالغير. وهنا تظهر لنا تلك “ال-أنا أفكر” المرضية التي ترى في ذاتها مركز المعرفة، وأنها هي الذات التي تسيطر على باقي الموضوعات، مهما اختلفت الأوضاع، ومهما تغير الزمن.
ويسير “الغير” بالنسبة لها مجرد موضوع أو شيء، مثل النظرة التي ينظر إليها عالم البيولوجيا إلى فئران تجاربه، فهو يحتاجها في لحظة ما، ويستغني عنها متى شاء حسب مزاجه لا حسب مجريات بحثه.سيظهر لنا طبعا أنه تم إقصاء ذلك الغير إقصاء وصل إلى درجة العنصرية وهي عنصرية بين الناس في الخطاب، والفكر والفن… وغيرها من مجالات العلوم والفنون.
إننا نجد أنفسنا كمتتبعين للمعرفة الإنسانية،قارئين أو أحيانا منتقدين، في جدليةعميقة. ربما أحدثتها الجغرافية، أو البنيات الفكرية، أو المحددات الثقافية، وأشياء أخرى، وهي جدلية الذاتية والغيرية، هذه الثنائية تكرست في الفلسفة لقرون وتلاشت، لكنها تحضر بشكل دائم في كل لحظة نسعى فيها إلى التنافس والمبارزة، فالنظرة التي ينبغي أن تسود هي النظرة المتبادلة (نظرة الزوايا المتعددة)،وهي أن يظهر لي الأخر –الغير- كاملا دون نقصان أو تجريد أو تشيئ، شريطة أن تظل متبادلة من الذات في اتجاه الغير والعكس، وألا تكون متبادلة بصورة افتراضية متخيلة،كالأحلام مثلا، التي تحضر في لحظة ما ولا تحضر في باقي اللحظات. حينها أمكننا الابتعاد شيئا ما عن فهم واهم ل” كوجيطو” ديكارت، وتأسيس الثنائية الحقة التي تُغيِّب الميز العنصري، بالشكل أو اللون أو الجغرافيا…، فمن يبدو لنا اليوم قائدا ورائدا في مجال ما، سيغدو بالنسبة للتاريخ، مجرد حركة تقليدية لرجل بدائي (الإنسان الأول)، حتى يبقى حقا “كوجيطو” روني ديكارت، محتكما لشروط سياق القراءة، ألا وهو سياقه التاريخي،وظروف إنتاجه للتأملات.
في الأخير، يظهر لنا أنه من الصعب القضاء على جدلية العبد والسيد المتجلية في جميع الأنماط الفكرية، كما الشأن مع جدلية الذات والغير، ويتطلب الأمر أن يحضرا بشكل دائم دون تمييز. حينها أمكننا الحديث عن نسيان الذات المنغلقة، والمغرورة، والمرضية، فيما يمكن أن نسميه بالنظرة الشمولية التي تعادي النزعة الذاتية (الذات مركز الكون)، وتعانق الذات المنفتحة على الغير، فمتى أمكننا تغيير نظرتنا للغير، إلا وأمكننا التشبع ببعد أخلاقي كوني.