نحن أمام الكاميرا
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
يذكر لي والدي – عليه رحمة الله الواسعة – أنه في زمن ما من عهد صباه، استضافت إحدى القرى المجاورة لقريته فرسانا من بلد أخرى من نفس الولاية؛ وذلك لإقامة يوم فروسي مميز، حيث تمثل الفروسية عند أغلبنا أمرا مهما، يعيد للذاكرة أيام البطولات التي تتحدث عنها الكتب، والقصص المروية من الشفاه، ولعل مشاهد الفروسية ما يحفز النفس إلى بعث الهمة والافتتان بالمنظر الذي يعكس شيئا من هذه البطولة والشجاعة ويعلي من قيمتها المعنوية ولو للحظات يسيرة ساعة وجود الخيل بهيمانها وصولجانها وهيبتها المعروفة، والمهم في هذه المناسبة؛ أن أحد الفرسان سقط المصر عن رأسه أثناء الجري السريع للخيل؛ فقال قولته المشهورة التي ظل من حضر هذه “العرضة” يرددها إلى زمن متأخر، ووالدي واحد من هؤلاء، ومما قاله هذا الفارس في تلك اللحظة: “لو أعطيت هذ القرية بكل ما فيها؛ ما كان يكافئني وقفة “التمصيرة” أمام المرآة”.
والمقاربة هنا، والتي وددتها من هذه القصة؛ هي هذه الوقفة؛ سواء أمام المرآة لتصليح الهندام، أو الكاميرا – بأنواعها – أمام المصور، ومستوى الحرص على أن تكون الصورة المتحصلة نقية في لحظتها أمام المشاهد في حالة التصوير، أو أمام الرائي؛ في حالة المشاهدة المادية المباشرة، وأن تكون هذه الصورة هي التي يريدها المشاهد، بغض النظر عن قناعاتنا نحن من نكون خلف الكاميرا في تلك اللحظة.
وأضرب لذلك مثالا للتقريب: فلو كان أحدنا أمام الكاميرا في حوار في التلفاز، وسألنا القائم بالحوار عن رأينا من قضية عامة ما، وفي الواقع لدينا موقف منها، أجزم أن هذا الراي سيكون إيجابيا بدرجة كبيرة، ولن نعلن عن موقفنا السلبي أمام الجمهور من هذه القضية، وسنحتفظ برأينا الخاص لأنفسنا، خاصة إذا كان الجمهور يريد ذلك، ومن هنا تأتي مقولة: “الفن للفن، وليس الفن للحياة” والفن هنا ليس مخصوصا بالاسم، وإنما كل مشاريع الحياة قائمة على هذه الصورة، فالمرأة تقف أمام المرآة لفترة غير يسيرة، وهي تضع المكياج، قبل أن تدخل وسط المجتمع، ولا تستطيع أن تخرج إلى هذا الوسط بقناعة “أن الإنسان بأصغريه عقله ولسانه” فهذا لا يكفي، ونحن كذلك معشر الرجال يقف الواحد منا أمام المرآة زمنا ليس يسيرا أيضا لتحسين مظهره من خلال ملبسه الكامل: بدءا من مظهر الوجه، إلى الدشداشة، والمصر، وحتى النعال، وقد يلف يمنة ويسرة حتى يتأكد أن مظهره لا يعيبه شيء، ومن ثم يخرج إلى الناس، ومن المستحيل أن يحتكم إلى قدراته الذهنية وقناعاته بما هو يعرفه عن نفسه، وإنما ينزل إلى الآخرين بما يريده هؤلاء الآخرون منه، وليس العكس.
ولذلك فهناك كثيرون ينظًرون عن القيم السامية، بينما هم في الواقع غير ذلك تماما، يناقضون أنفسهم بمواقفهم، وبسلوكياتهم، وبأقوالهم، وكل التنظيرات التي يتفوهون بها عن المثل لا يكون لها وجود في واقعهم الحقيقي، وهذه إشكالية موضوعية في مسألة القيم، يعاني منها كل الناس إلا الاستثناء، وهم قلة جدا، وهنا استحضر مثالا حيا؛ وهو في إحدى الندوات عن توظيف القوى الوطنية العاملة، انبرى على المسرح أحد رجال الأعمال مؤكدا وقوفه ومآزرته لتوجه الحكومة في تفعيل قيام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة؛ وأهمية الدور الذي سوف تقوم به في شأن استيعاب القوى العاملة الوطنية، وما هي إلا فترة يسيرة وإذ به يحارب هذا التوجه – على الواقع – من خلال منافسته غير المتكافئة لشاب للتو يبدأ إنشاء مؤسسة صغيرة، قائلا بملء فيه: “هذا سوق مفتوح” وذلك من خلال عمل تنزيلات؛ تكاد تصل الى (60%) للسلعة التي يسوقها الطرفان؛ منافسة لهذا الشاب الذي تكلف عشرات الآلاف لإقامة مؤسسته الصغيرة.
يبدو أن وقوفنا أمام الكاميرا ينزع عنا الكثير من القيم، والكثير من القناعات، والكثير من المواقف غير المعلنة، حيث نقع في نوع آخر من الأسر والتمويه ومغالطة الواقع؛ للأسف الشديد.