“عطاء لا ينضب”
بقلم : إلهام السيابية
أوقف حامد رنين المنبه وهو يستغفر ويستعيذ بالله من الشيطان ماسحا على وجهه الحزين بقوله : الحمد لله الذي رد إليَّ روحي بغير حولٍ مني ولا قوة ، وبسمل ، فشرب كأساً من الماء الدافئ الذي قد تعود أن يضعه بجانب سريره قبل نومه مغطى بصحن صغير في أعلى الكوب ، تأمل سريره الكبير بقلق أين ذهبت صفاء ، وفجأة لم يستطع أن يكف عن البكاء بشكل متواصل وبنحيب وهو يقول كيف لي أن أنسى أين هي ؟؟
ربي صبرني على فراقها.
ماتعودت أن تنام بعيدا عني !! وهاهي اليوم تسكن في بيت مظلم َوحيدة خائفة ، أرجو الله أن يستضيفها بروح وريحان وجنة نعيم ، كيف مسكنك ياغاليتي ، هل وجدتي من سورة الملك منجية لك ، كنتي دوماً تذكريني وتقولين لي : ستكون لي درعاً عند السؤال والحساب وعسى الله أن يشفع بها لي عنده ، أين أنتي الآن؟؟
عندما افترش جسمك اللحد خارت قوايا وأنا أرى الكفن يلفك و التراب يعثر وجهك بذراته ، فأمسحه متأملا قسمات وجهك الجميل ، آآه ياصفاء ، الأنفاس تتقطع والبكاء لا ينتهي ، ولكني ذكرت الرحمن الرحيم فهدأت نفسي وطابت ودعوت لك بالرضوان وتحصيل الجنان فقد كنتي خير زوجة ،
و تتالت الذكريات ، فقبل زواجه من صفاء كان حامد شاباً لعوبا لكل ما لهذه الكلمة من معنى ، يحب النساء والخمر ، لم تستطع امرأه أن تروض جماح غروره وكبريائه ، إلا صفاء التي كانت تعمل في نفس الشركة ولكنها في قسم آخر ، تعرف كل شيء عنه ، وكانت تحذر البنات من الوقوع في شباكه ، حاول أن يستميلها ، فلكل امرأة مفتاح أما صفاء لم تعطيه فرصة ، حاول استمالتها بالكلام الحلو ، بالتقرب البطئ الممل من فريسة جديدة ليحصل على مبتغاه ، ولكنها كانت صامتة ولا تفعل شيء إلا النظر لوجهه بإمعان وهي تقول له : خاف الله في أخواتك وأهلك ، ولكنه كان يجيبها بسفاهة : ليس لدي أخت .
كان نذلاً بكل معنى النذالة المعروفة ولكنها كانت لا تسكت بل ترمي عليه بكلمات تؤرق لياليه فيبتعد فترات ثم يعود أعند من ذي قبل ،
مرة كان يغازل فتاة في ممر الشركة فتوقفت صفاء ثم استدارت عنه فلاحظ أنها رأته تقرب منها بحذر ولكنها قالت له : أنت تضيَّع وقتك الثمين بالركض وراء النساء ، لتصبح تافهاً في نظري وشيطان لعين ، توقف وكأنها أصابته في الصميم : النساء أجمل خلق الله ،
أجابها بكل صدق .. ولكنها قالت له بشجاعة : إن كنت تبحث عن أجمل النساء فافعل لما تنال به حوريات الجنان ، لا تعبث مع بنات الناس وأنت لا تطمح الا للفساد ، استر نفسك .. وذهبت عنه ، بعدها لم يحاول أن يقترب منها أبداً فهي بالنسبة له ملف مغلق لا يحب الخوض فيه ، ولكنه لاحظ انه بدأ بالتغيير وفي نفس الوقت تتالت الشائعات في الشركة لتثير خبر خطبة صفاء ، التي كانت كخنجر مسموم يتسلل في نفسه ، ماذا به؟ لما هذا الغضب لما؟؟ هي تستحق أفضل منه ، ولكنه يحبها ، أجل ، عاند قلبه كثير ولكنها استطاعت أن تعيد إليه ترتيب حياته والآن هي تنخطب لغيره !!
جلس مع رفقة السوء ليشرب وينسى ولكن كلماتها ترن في أذنه : استر نفسك .. فلم يشعر بنفسه إلا هو يرمي بزجاجة الخمر وهو يقول : لن تأخذيني للجحيم سأكون قوياً لن يغلبني إبليس اللعين .
كانت أول بوادر التوبة.. وبدأ الكل يلاحظ حامد الجديد المتفائل والمتفاني في عمله ، توقف حامد أمام صفاء وهو يقول : لما تقدمتي بطلب الاجازة؟
نظرت له بغضب وهي تقول؟
الإجازة من حقي وليس لأحد أن يسألني عن سبب أخذها حتى مسؤولي لأنها أجازتي ، ليست إجازه مرضية ولاعرضية وإنما إجازتي السنوية.
توقف أمامها وهو يقول :
أريدك أن تفكري فيما سأعرضه عليك لا تعطيني الجواب مباشرا :
اريد التقدم لخطبتك؟
ماذا هل جننت؟؟ كان جوابها سريعا ولكنه قال : هل أنت مخطوبه؟ هل أخطأت .
قالت بشيء من الشده والهدوء
لست مخطوبة يا أخي وإذا فكرت أن أتزوج ستكون آخر رجل أوافق عليه .
ابتسم حامد وهو يقول :
أرجوك لا تستعجلي في الرد أرجوك، فكري ، وأعطيني ردك عند عودتك من الإجازة ، واختفى من أمامها وبقيت صفاء تصارع أفكارها المتضاربة ، المشتتة ، من سابع المستحيل أن توافق هل هو مجنون !!
لقد تعودت أن تأخذ إجازتها بدخول شهر رمضان لتتفرغ فيه للعبادة والتقرب لله ، والبعد عن الملفات وغبار المكاتب ، وإزعاج المراجعين ، وغطرسة المدراء .
كانت إجازتها رائعة بكل معاني الجمال ، وتلقاها وجه حامد المنتظر جوابها بشوق ، ماذا ستقول له؟؟كتبت على ورقة رقم هاتف وقالت له : هذا رقم أبي تواصل معه .
لم يصدق كاد أن يطير من الفرحة وهو يمسك بالرقم ، لقد استخارت الله فعلمت أنَّ به خير ،
وتزوجا ، لم يكن من السهل أن تنسى حكاياته مع النساء ولكنها لم تتحدث يوماً في الأمر وإنما قسمت اليوم معه ، فكانا بعد صلاة الفجر يقرآن صفحة أو صفحتين ثم يذهب معا للعمل بعدها يحين دخول صلاة العصر فعملهم في الشركة ينتهي بحلول الساعه الثالثة . فبعد صلاة العصر يتدبران آية ، وبعدها يأتي طبق الحلو مع فنجان قهوة ، ويتحادثان معا إلى أن تدخل عليهم صلاة المغرب ، فبعدها يجلسان ليتما معا قراءة جزء من القرآن هو يقرأ صفحة ثم تتابع هي صفحة إلى أن يتما معا جزءً كاملاً لتدخل عليهم صلاة العشاء .. تغيرت حياة حامد فأخذ يتذوق حلاوة الإيمان. فحمد الله على قبولها للزواج منه ، بعد خمس سنوات من زواجهما ، توقفت أمامه صفاء وهي تقول : لدى خبر لك .. كانت هادئة ومبتسمة كعادتها .
فرح توقع أن تكون حامل ولكنها قالت له :
أنت مخير بأن تتزوج بأخرى أو تطلقني – كلامها أثقل كاهله فقال بغضب : ماذا تقولين؟
ابتسمت بهدوء وهي تجيب :
أنا مصابة بالسرطان و قد تبلَّغ بدرجة كبيرة ولا فائدة من العلاج
لذلك أنت مخير أن تتركني أو أن تتزوج بأخرى ..
هل تمزحين معي؟
لا يبدوا ذلك هذا أمر لا مزاح فيه ،
كانت مفعمة بالأمل من يراها لا يصدق انها مصابة بالسرطان ، تعبت كثيراً في الفترة الاخيرة ولكنها كانت تبتسم وراضية بكل مافيها من مرض وألم وحزن وفرح كانت كلماتها الأخيرة لزوجها : كنت أعرف أنني لن أندم إذا تزوجتك وقد ربحت فلله الحمد وليعوضك الله من هي خيرا منية. ماتت ممسكة بيديه ،، بقوة ، المستشفى كلها حزنت لتلك المرأة التي كانت تكافح المرض بابتسامة ،، تكافح الألم بالعطاء ، تكافح القلق بالرضى، لم يستطيع حامد أن ينسى من غيرت حياته ليسمو بها لمرضات الله .
إنا لله وإنا اليه راجعون
رددها كثيراً جداً فتسللت الكلمات مسليةً له في محنته ، أجل كلنا سنرجع لله فنحن كلنا خلق من خلقه ، فلله الحمد
ذهب للوضوء فصلاة الفجر تنتظره جماعة ليلتقي هناك برب العباد ، ومؤنس القلوب ، وميسر الأمور ، فالأمر كله لله .