من منظور مختلف لأزمة كورونا..رفقا بجيوش التنمية
د. معاذ فرماوى
لم تمض أيام على ظهور أزمة كورونا بمصر حتى صاحبتها أزمة أخرى لا تقل خطورة وهي أزمة قطاع التمويل الأصغر، وكما تصاعدت أزمة كورونا وتوابعها تصاعدت أيضا أزمة التمويل الأصغر وتوابعها، خاصة ما يتعلق بنظرة بعض العملاء تجاه هذا القطاع الحيوي، وقد تكون هذه النظرة مقبولة كرد فعل تلقائي مؤقت جراء التوابع الاقتصادية للأزمة وإن كانت غير صحيحة، لكن من غير المقبول استمرار هذه النظرة ودخول أطراف ذو مكانة اجتماعية وسياسية في الهجوم على مؤسسات التمويل الأصغر وبلا وعي لدور هذه المؤسسات في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبلا فهم لطبيعتها وما يشكله هذا الهجوم من خطر على عملاء التمويل الأصغر أنفسهم قبل المؤسسات، فالخاسرالأول هم العملاء الذين لن يجدوا من يدعم ويساند وينمي مشاريعهم الصغيرة إذا سقطت هذه المؤسسات، لذا يجب فى البداية تقديم نصيحة هامة وهي رفقا بمؤسسات التمويل الأصغر فهم جيوش التنمية والحرب عليها لها نتائج كارثية اقتصادية واجتماعية كما سيتضح منهذا المقال، وقد أثبتت التجربة المغربية أن عدوى التخلف عن السداد تنتشر بشكل سريع بين العملاء، وقد لا تتسبب فقط في انهيار المؤسسة التي تعاني من زيادة المتأخرات بل قد تسقط قطاع التمويل الأصغر فى مصر بأكمله.
أجمع الاقتصاديون وخبراء التنمية الاجتماعية على أهمية دور نظام التمويل الأصغر وفعاليته في محاربة الفقر، فتمويل المشاريع الصغيرة يؤدي لتحسينها ونموها وهو ما يصب في تنمية القطاع الخاص، وفي الوقت الذي يعاني فيه أصحاب الدخل المحدود من قلة الخدمات المالية بسبب الإستراتيجيات التقليدية للبنوك فإن نظام التمويل الأصغر يوفر لهم هذه الخدمات مقابل شروط ائتمانية ميسرة وضمانات بسيطة تتلاءم مع قدراتهم الاقتصادية، ويجعل من اليسير عليهم تمويل وتنمية مشاريعهم البسيطة، وبالتالي تقوم مؤسسات التمويل الأصغر بسدالفجوة الموجودة في قطاع الخدمات المالية من خلال تقديم قروض صغيرة لغير القادرين على الحصول على خدمات القروض التقليدية، وعلى هذا الأساس يعتبر نظام التمويل الأصغر أداة فعالة للتنمية الاقتصادية تساعد على الحد من الفقر، وقد أحدثت صناعة التمويل الأصغر تحولا كبيرا في العالم سواء في الدول الفقيرة أو الغنية، ففي الدول الفقيرة والنامية تم دعم ومساعدة ملايين الأشخاص، وأما في الدول الغنية فقد أصبحت هذه الصناعة مهدا للأفكار الريادية، فهي تساهم فى خلق وظائف جديدة ومستديمة لأصحاب المشاريع الصغيرة، وتتعدى فائدتها إلى زيادة وتنوع دخل الأسرة ورفع مستوى المعيشة وارتفاع معدل الأمن الغذائي، وهذا يؤدي للتطور المستدام للاقتصاد القومي من خلال خلق الوظائف للأغلبية الفقيرة في القطاع غير الرسمي والمساهمة في تخفيض معدلات البطالة والخروج من أزمات الفقر، وقد أثبتت الدراسات البحثية إضافة للواقع الملموس أهمية الدور الذى يلعبه نظام التمويل الأصغر في محاربة الفقر فهو أداة فعالة إذا تم استخدامه مع أدوات تطويرية أخرى، خاصة دوره في تعليم الفقراء كيفية الاعتماد على أنفسهم لإنشاء وإدارة المشروعات الممولة والمدعومة من هذا القطاع والذي يعتبر وسيلة فعالة لتمكين الفقراء وخاصة النساء ومساعدتهم على الاعتماد على النفس وإحداث التغيير الاقتصاديالإيجابي.
وفضلا عن خدمة قطاع التمويل الأصغر لعملاء غالبيتهم من ذوي الدخل المحدود وغير قادرين على الوصول إلى المؤسسات المالية الرسمية فهم في نفس الوقت من أصحاب المشاريع الصغيرة ويعملون لحسابهم الخاص ومنهم من يديرون أنشطتهم الاقتصادية من منازلهم، ومن أمثلتهم في المناطق الريفية صغار المزارعين وأصحاب الأعمال التي تدر دخلا متواضعا وأنواع التجارة البسيطة، وأما في المدن فهم أصحاب المتاجر ومقدمي الخدمات والصناع الحرفيين والباعة المتجولين، لذلك كان أهم ما أنجزته أنظمة التمويل الأصغر هو تجاوز نقص الضمانات لدى هذه الفئات مما جعلهم مؤهلين وقادرين على الحصول على الخدمات المالية وبإجراءات سهلة وقصيرة، ولا تعتمد على الضمانات ولكن على نسبة سداد العميل، وذلك على عكس إجراءات الإقتراض في المؤسسات التقليدية والتي تتصف بالطول والاعتماد على ضمانات واضحة.
وقد أشارت دراسة قامت بها مؤسسة “بلانت فاينانس” وست مجموعات أخرى إلى نتائج إيجابية عديدة منها أن التمويل الأصغر في مصر يساهم في خلق أنشطة اقتصادية جديدة إضافة لدعم المشروعات القائمة، ومن جانب آخر أثبت الواقع أن ذلك أفضل من النظرية التقليدية للتنمية والتي كانت تعتمد على المنح المالية أو الصدقات والتي من أهم سلبياتها أنها تؤدي للاعتمادية بدلًا من إنشاء وتطوير مشاريع خاصة.
من جانب أخر يعتمد نجاح مؤسسات التمويل الأصغر في تقديم الخدمات المشار إليها وفي المساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية على قدرتها على تغطية تكلفة تمويلها للمشروعات الصغيرة، وكذلك قدرتها على استرداد أموالها من المقترضين، إضافة إلى قدرتها على تحقيق فائض يمكن إعادة استثماره لتطوير المؤسسة، وتواجه مؤسسات التمويل الأصغر مشاكل مختلفة بهذا الصدد منها أن عملاء التمويل الأصغر لهم طبيعة خاصة حيث أن كلهم محدودي الدخل، فهم ليسوا كعملاء أي خدمة أو منتج آخر والذين يتميزون بأنهم مزيج من مستويات اجتماعية وثقافية مختلفة، فعملاء التمويل الأصغر من مستويات مجتمعية وثقافية محددة ويؤثر هذا المستوى على بعض السلوكيات مثل فهمهم لطبيعة التمويل الأصغر على أنه صدقة وخدمة اجتماعية وليس استثمار مما يخلق كثير من المشاكل معهم خاصة عند طلب استرداد القروض، وعدم قدرتهم على سداد القروض يؤثر على استدامة مؤسسات التمويل وبالتالي تحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية، كما أن أماكن سكن وتواجد العملاء يرفع تكلفة التمويل لارتفاع تكلفة الوصول لهم خاصة مع رغبة العملاء لظروف فقرهم في توفير تكاليف الانتقال للمؤسسة وفروعها عند الحاجة لذلك.
ولا يؤثر عدم قدرة مؤسسات التمويل الأصغر على الحصول على مستحقاتها من عملائها على تحقيق الاستدامة فقط بل يؤثر بالتبعية أيضًا على قدرتها على الوصول لأعداد كبيرة من الفقراء المحتاجين للخدمات المالية وبشكل مستمر، أي أن الخاسر الأول هم العملاء قبل المؤسسات.
إضافة لما سبق فإن وضع سقف لأسعار فائدة التمويل الأصغر كرد فعل لمحاولة البعض إثارة أن مؤسسات التمويل الأصغر تجني أرباحا كبيرة وفي محاولة منهم لتبرير تأخر العملاء فى سداد مديونياتهم سيضر بوصول العملاء أنفسهم للخدمات المالية، فسوف تتكبد مؤسسات التمويل الأصغر خسائر إذا تم تحديد معدل الفائدة بمستوى أقل مما هو مطلوب لاسترداد تكاليف التمويل، كما سيؤدي ذلك أيضا إلى الحدمن رغبات وقدرات مؤسسات التمويل الأصغر على توسيع عملياتها، وتثبيط المستثمرين المحتملين عن دعم صناعة التمويل الأصغر، كماسيؤدي إلى تقليل الجدارة الائتمانية لهذه المؤسسات والحد من قدرتها على الإقتراض لتمويل عملياتها، وبالتالي الانخفاض في تقديم الائتمان وإحداث ضرر بالعملاء محدودي الدخل وذلك خلافًا لتوقعات المهاجمين، فالقروض الصغيرة أكثر تكلفة من القروض الكبيرة، ووضع سقف لأسعار الفائدة يمكن أن يؤدي لإهمال مؤسسات التمويل الأصغر للعملاء الأكثر فقرا وعملاء القروض صغيرة الحجم، كما سيؤدي إلىتغيير طبيعة الإقراض المقدم بزيادة التحول للقروض قصيرة الأجل بسبب انخفاض الفائدة وهذا سيقلل من منافع هذه القروض للعملاء،وسيؤدي على المدى الطويل لنتائج وخيمة أهمها وحسب ما أثبتته الدراسات والتجارب العالمية انسحاب مؤسسات التمويل الأصغر من السوق بسبب عدم القدرة على الإستمرار بعد تفاقم الخسائر، إضافة إلى إنخفاض معدل النمو للتمويل الأصغر بشكل كبير، وعلى سبيل المثال انخفض معدل النمو في نيكاراغوا من 30% إلى 2% فقط بعد وضع حد لسقف الفائدة، وتوجه مؤسسات التمويل الأصغر إلى المقترضين الأفضل حالًا للحصول على ضمانات جيدة لخفض المخاطرة وضمان السداد.
أعتقد أن كل ما ذكر كافي لوقف الحرب على جيوش التنمية وهي مؤسسات التمويل الأصغر، والبدء في دعمها إعلاميا وفهم طبيعتها وشروط ومزايا بقائها واستمرارها في تحقيق أهدافها وتقديم خدماتها المستمرة ولأكبر عدد ممكن لأصحاب المشاريع الصغيرة، وأيضا لتوضيح خطورة الهجوم غير المبرر والمبني على عدم فهم وعدم معرفة لطبيعة ودور هذه المؤسسات.
فضلًا أوقفوا الحرب على مؤسسات التمويل الأصغر لأنهم جيوش التنمية، ولأنكم لا تدركون العواقب الاقتصادية والاجتماعية الوخيمة لهذه الحرب.