2024
Adsense
قصص وروايات

في الحافلة

د. علي زين العابدين الحسيني الأزهري
باحث وكاتب أزهري

 

عندما جنّ الليل خرجتُ مسرعاً من بيتي متوجهاً إلى صديق أديبٍ مهتم بالمعرفة والثقافة أسعدُ بمقابلته من حين لآخر، وأحب كما هي عادتي التنقل بالوسائل العامة وسط هذه المدينة الصاخبة في ظلمة الليل، أحسب أنها فرصة لأخذ مشاهد حية من حياة الناس عن قربٍ تكون عوناً لي في كتاباتي، فمعرفة أحوال الناس باعثة على التفكير والكتابة، ولعلها فيما بعد تكون مادة غنية لكتابة ( يوميات أزهري في ……. )، وما أدراك؟
سلكتُ طريقاً مختصراً نحو أقرب نقطة لتوقف الحافلات، وبعد مضي دقائق في الانتظار أقبلت الحافلة، وصعدت إليها، كانت الحافلة شبه فارغة وهادئة، فالوقت يبدو أنه متأخرٌ، وأغلب الناس قد رجعوا لمنازلهم للاستعداد ليومٍ من أيام العمل المتتالية، وهكذا حياة العمل لا تجعل المرء يلتفت لنفسه، أو يحاول الانشغال بذاته، وأنا أرفضُ هذه الحياة العادية بكل ألوانها وتفاصيلها.
أعود للحافلة حيث جلست على أقرب مقعد، وأسندت رأسي على مسند الظهر، وأغمضت عيني، وحاولت تذكر أيام مضت من عمري، وكذا شغل تفكيري بما سيكون في الأيام القادمة، كنت شديد الرغبة في أن يصفو رأسي، فالمسافة طويلة، ومن عيوب الحافلة أنها تقف عند نقط معينة ومحددة لتوقف الحافلات ، ليست بالقليلة، ومع كثرة هذا الوقوف إلا أن ركوب الحافلة العامة شيء ممتع.
وأثناء توقف الحافلة في إحدى نقط توقفها استقل الحافلة رجل أربعيني أبصرته مِن بُعد، طويل القامة، صغير الرأس، ضيق الجبهة، كبير الفم، يمشي متثاقلاً، ذو شارب كثيف، وحذاء لامع جديد، يتكلم بصوت جهوري، نظراته ثاقبة، لكن نفسه ثقيلة.
وجه نظره لجميع الجالسين متردداً في جلوسه، ثم جلس هذا الرجل في الأخير بجانبي، أحسستُ من نظراته بثقل نفسه، وهو أولّ شعور شعرت به نحوه، وفي مثل هذه الحالة أُشعر من بجانبي تجاهله حتى لا يكون هناك مجال لفتح حديث جانبي معي، فأنا لا أحب الكلام الكثير مع مَن أعرفه فكيف بمن لا أعرفه خصوصاً إذا كان كلاماً لا فائدة مرجوة منه.
حاول أن يفتح مجالاً للكلام معي، لكني في كل مرة أجيب إجابات جافة يفهم منها السائل أني لا أرغب في الحديث، وربما في بعض أسئلته أجيبه بحركة أو نظرة حتى أشعره بعدم رغبتي في الحديث، لكن مع كل مرة أحاول فيها صده عن الحديث يعاود الحديث معي من جديد.
أحسستُ بنبرة غضب في صوته ولم أجد حقيقة لها مبرراً، فجلّ ما في الأمر يا زميل الحافلة أننا تلاقينا في هذه الحافلة، وبعدها سيذهب كل منا إلى طريقه، وهكذا الحال مع زملاء العمل، فلا ضرورة لكلّ هذا الغضب، أو تغير ملامح وجهك، ولم أبال به، وأقبلتُ كعادتي على شأني، فقد كنت مستمتعاً بالجو العام لهذه المدينة وهذا الظلام المحيط بنا.
أخرجتُ هاتفي أكتب رسالة لصديقي أخبره بقرب وصولي، وكان إخراج هاتفي هرباً من ثرثرة زميلنا ظناً مني أن هذه الفعلة ربما تفهمه بعدم رغبتي في تبادل الأحاديث معه، أو تكون حاجزاً بيني وبينه، وبينما أنا أكتب الرسالة وجدته ينظر إلى هاتفي ويحدق النظر فيه، فلم أراعه اهتماماً، وما ذنبي إذا فسد الذوق العام؟!
شعرت وأي شعور ساعتها أنه حمل ثقيل على قلبي، ولا أدري كيف الخلاص منه أو على أقل الأحوال كيف أشغله بغيري عني، والحال أنني إذا انتقلت من محادثة إلى محادثة أخرى أحسست أنه يريد الاستفسار عن شيء، أو يريد الإجابة عني، أو يظن أنني في حاجة لأخذ رأيه فيما أكتبه.
لا أنا أستطيع زجره لكبر سنه وهو البلاء نفسه، ولا أنا أستطيع التوقف عن مطالعة رسائلي، فالتظاهر بالانشغال بهاتفي باتت وسيلتي الوحيدة لقطع الحديث معه، وأثناء ذلك كان يراودني تفكير وسؤال، ما السر الذي يجعل هذا المتطفل هكذا؟، وأردت أن أتعمق في فضول هذا الرجل، وفي ترصده البصري، وهل هذا الترصد مقتصر على الهاتف أم أنه عام.
أتتني فكرة اختبار هذا الرجل هل إزعاجه مقتصر على النظر في الهاتف أم يتعداه لغيره، فأدخلت هاتفي وأخرجت من حقيبتي كتاباً في الأدب كُتب بلغة أدبية راقية، فما أن رأى عنوانه، وكان عنوانه غريباً غير مألوف إلا وقد حول نظره عني بالكلية، وما هي إلا دقائق معدودات إلا ووجدته نزل مسرعاً، وهكذا القراءة تبدو أنها منفرة لهؤلاء الثقلاء في حياتنا، وهي علاج نافعٌ لمثل هؤلاء.
كتبتُ فيما مضى متسائلاً: الأشخاص الثقلاء كيف تتعاملون معهم؟!
فقابلني أحد الأصدقاء بعدها بأيام يسألني هل وجدتَ جواباً لسؤالك، فأخبرته أنني قيد البحث عن العلاج، وأسأل الله أن يكون قريباً، وبعد حادثة الحافلة، فإني أخبرك يا صديقي وأخبركم جميعاً أنّ أفضل علاج لإبعاد الأشخاص الثقلاء عنك: هو انشغالك بالعلم، وعكوفك على القراءة، فالحمد لله الذي جعل العلم لنا مخرجاً.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights