منغصات الرحلات الخلوية
خميس بن محسن بن سالم البادي
خلال هذه الفترة الشتوية و أيام الخصب التي تشهدها معظم ولايات السلطنة نتيجة الغيث الذي أغاث الله به العباد و البلاد فسقاهما رحمة ً منه جلت قدرته بغيثه المغيث، فأنبت الزرع و اخضرت الأرض و انسابت المياه عذبة رقراقة في مجاريها و سواقيها، بذلك قد سنحت الفرصة و الظروف أن أشد الرحال للقيام برحلة خلوية رفقة الأسرة، فاستقرت الآراء أن تكون هذه النزهة بأحد الأودية العمانية الشهيرة، التي تتميّز بالمياه المنسابة و الأشجار المورقة الخضراء الوارفة و الجبال الشاهقة و الرمال الحصوية المتنوّعة الجميلة واللامعة بضوء أشعة الشمس المنعكس عليها.
و إيفاءً بذلك الاتفاق كان الصباح الباكر هو ساعة التحرك صوب الوجهة المقررة و المتفق عليها، حيث شققنا طريقنا وسط سديمٍ عم أرجاء واسعة من المكان منذ منتصف الليل و الذي بلغ ذروته عند الفجر معيقاً بذلك الرؤية أمام سائقي السيارات عبر الطرق، بما جعلنا نستخدم الأضواء الكاشفة للسيارة لتساعد على شق المسار أمامنا لاختراق غلظة الضباب الهابط بكثافة، فمضينا في التو الذي بدأ فيه انبلاج الشروق وهبات هواء باردة تدغدغ الوجوه السافرة حتى أثلجت أرانب الأنوف، متسببة لها بحساسية عابرة لم تدم طويلاً بعد إقفال نوافذ المركبة، وبعد مسيرٍ دام قرابة الساعة أو أكثر بقليل، ها هو ركبنا يصل المكان الذي كان يخلو من الزوار السياح، ربما لأننا نحن من أبكر الوصول للمكان، فضمرت سعادةً في نفسي و لسان حالي يتمتم بأنها سانحة طيّبة لاختيار الجزء المناسب لنا من الموقع لجلوسنا عليه لقضاء يومنا فيه، وبتجوالنا في الوادي الجميل بحثاً عن الموقع الملائم لجلستنا، الذي خططناه ذراعاً ذراعا،، للأسف ثم للأسف بل وا أسفاه عما آلت إليه نفوس البعض في حق بيئتنا العمانية من تعدٍّ سافراً، البيئة التي نروم لها أن تكون بيئةً عذراء على الدوام كما لو لم تطأها قدميْ إنسانٌ عابث، فغادرنا المكان مجبرين آسفين لما آل إليه حال الموقع السياحي هذا، ما جعلنا نغادر على عجل للبحث عن موقع آخر بعيداً عن تلك النفايات و القاذورات التي كان سببها أيادٍ عابثة قضى أصحابها مبتغاهم الخلوي تاركين تلك القمامة ورائهم من غير تأنيبٍ لضمير أو لوماً لنفسٍ للأسف..
إنها منغصات الرحلات الخلوية التي تواجه الرحالة و السياح في بعض الأماكن السياحية، فلقد كان الوضع مقززاً بكل ما لهذه الكلمة من معنى، حيث نفايات الذين ارتادوا المكان ومخلفاتهم تنم عن فوضى عارمة، و كأن شويهات بدويّ وقعن على مزرع قت فسعت تعيث فيه ذلك الفساد العبثي، أو بمعنى آخر كأن رهط سعادين كان لديهم وليمة دسمة تناولوها في المكان دون تنظيم طبقاً لحياتهم الفوضوية التي اعتادتها، حيث تحول المكان و كأنه مكب نفايات.
الحال مزرية فعلاً لمثل هذه المواقف و التصرفات، و لا نبرئ أحداً عن هكذا أفعال، فهنا المواطن مع عائلته وذاك مع رفاقه وأصدقائه و ثمة مقيم أو زائر ربما ارتاد المكان أيضاً، لكن مؤكداً أن غالبية الذين جاءوا لهنا هم من أبناء السلطنة، الذين تفترض فيهم الغيرة و أن تأخذهم الحمية نحو كل ما يخالف الرقيّ بعُمان، من منطلق أن خدمة الوطن لا تقتصر على نهج أو نمط معين بل هي امتداد لكافة المجالات التي تنصب في مصلحة سلطنتنا الغالية العزيزة، وإن وجد القلة من الشواذ بيننا، إلا أن ذلك لا يعني السير على نهجهم بل يجب التصدي لتصرفاتهم هذه، و ذلك بالطرق التوعوية و التوجيهية المجتمعية و الإعلامية المكثفة التي من شأنها أن تعيدهم إلى جادة الصواب، بغية احترامهم نظافة البيئة و المكان أينما حلوا و تواجدوا، وأن تأخذ الجهات المعنية دورها الفاعل للتصدي لهكذا مسلك، لأن ذلك لا شك أنه يعكس سلوكنا الحضاري الذي يعود إيجاباً على مدى رقيّنا كعمانيين ليس في الداخل فحسب بل أيضاً في الخارج حيث نمثل بلداً غالياً اسمه سلطنة عُمان.
و الله سبحانه و تعالى حث في كتابه العزيز و في مواضع عدة منه على صون و حماية البيئة، فقد قال عزّ و جلّ في سورة البقرة{كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} صدق الله العظيم،، الجزء الأخير من الآية(60).
و قوله تعالى{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}صدق الله العظيم،، سورة الروم الآية (41).
إذاً هي دعوة ربانية لعباده الذين جعلهم خليفة في الأرض لعمارتها و ليس إفسادها، فهل لنا أن نتعظ و نحافظ على بلدنا راقية نظيفة، لأنه ليس من ضير أو إنقاص من كرامة إن جمع كل منا نفاياته في مواضعها بل هو قمة الرقيّ التي سنبهر بها الآخرين، وليكن لنا أيضاً عبرةً في حديث المصطفى صلى الله عليه و سلّم حين قال(الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
كما رُوي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنّه قال: (إنَّ اللهَ تعالى طيبٌ يُحِبُّ الطيبَ، نظيفٌ يُحِبُّ النظافةَ، كريمٌ يُحِبُّ الكرَمَ، جوَادٌ يُحِبُّ الجودَ، فنظِّفوا أفنيتَكم، ولا تشبَّهوا باليهودِ).
لذلك فإن الرقابة الذاتية لذات الفرد نفسه هي محور سلوكه في المجتمع وهي أيضاً تبيان صريح لطريقة كيفية تعاطيه و تعامله مع البيئة، وهذه الرقابة الذاتية عامل مهم في حياة الفرد كونها تنظم حياته على المستوى المجتمعي من غير رقابة أصحاب السلطات التنفيذية له، أي نعم قد لا يوجد مخصص لهذه النفايات في بعض الأماكن و خاصة في بطون الأودية و أماكن مجاري المياه لأسباب ربما بيئية و جمالية، لكن ذلك ليس بعذر لأنه لا أرى ضيراً من أن أحمل معي ما خلّفته من قمامة في إناءٍ خاص ثم وضعه في أقرب مخصص يصادف في الطريق نحو العودة، و إن كان ثمة مأخذ تكمن لدى الفرد على طرف من الأطراف في البلاد، فذلك لا يعني تفريغ الشحنات التراكمية لذلك المأخذ في النفس عبر مثل هذه التصرفات، لأن الوطن كأرض وبحر وجو لا ذنب له مما اقترفته أيدينا في حق بعضنا،، لتبقى عُمان ليس كما أرادها فقط مفجّر نهضتها المباركة الراحل جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- رحمة الله تعالى عليه- بل كما زرعه فينا رحمه الله من حب و إخلاص و وفاء لهذا البلد العريق ليكون ذلك قولاً وفعلاً محققين منا على واقعنا المُعاش، فدامت لنا عُمان شامخة عزيزة راقية نظيفة تستمد إبائها و كرامتها بأبنائها الأوفياء الكرام البررة.