الصفحة البيضاء
د. علي زين العابدين الحسيني الأزهري
باحث وكاتب ومؤلف أزهري
كان يوماً متعباً بكل ما تحتويه الكلمة من معنى، دخلتُ بيتي بعد هذا اليوم المرهق، وحاولت النوم والراحة لكن دون جدوى، فتواردت الأفكار، وراودتني التخيلات، وتملكت الحيرة عقلي، وخيم الوجوم فوق ظل صمتي، وانتابني شعور القلق، وسيطر عليّ حديث النفس.
كنت قبل هذا الموعد بعدة أيامٍ أمضيت لياليها وأنا مطرق متأمل، ولي فكر متبدد، وجفن مؤرق، وذهن متعَب، وخاطرٌ متعدد، وجنبٌ يجافي الكرى، وعين هجرت الوسَن، وجسم عليل.
أسرعتُ في القيام من نومتي، فجلستُ إلى مكتبي، وأمسكتُ بقلمي، وقبلها أحضرت كأساً من القهوة، ثم بحثت عن دفتري لكنه اختفى فجأة دون إنذار لي، فوجدت صفحات بيضاء عن بعدٍ فأسرعت لأخذها.
أمسكتُ بهذه الصفحات محاولاً استعراض ما مرّ علي أثناء هذا اليوم المرهق ذهنياً قبل أن يكون بدنياً؛ لأختار منه موضوعاً أكتب فيه، والحقيقة أنه مع كل تعبه إلا أنه خال من التصور والخيال الذي يمكن أن أعتمد عليه، تعبٌ جسدي بلا فكر ونظر، وهكذا الأيام تمر.
لم أستطع الكتابة، فبدأت أنظر إلى هذه الصفحات البيضاء نظر الفاحص المدقق، وبعضها نظر المندهش، أحاول قدر استطاعتي تسويدها، إذ لا يظهر قيمة هذه الصفحة البيضاء إلا بعد تسويدها، فهي كالعروس لا تتزين إلا بكتابة الكلمات والعبارات.
كتبتُ سطراً واحداً، ثم توقفت الأفكار فجأة، وقبلها تبلدت المشاعر، فأحسستُ بشعورٍ غريب ساعتها، وهو إحساس التوقف عن التعبير والكتابة، وهو الشعور باقتراب الموت، وأشبه ما يقرب المعنى أنّي أصبحت كالمشلول إلا أن الفارق بيني وبينه أنه لا يستطيع الحركة، وأما أنا فلا أستطيع التفكير، وشتان بينهما.
كان الوقت متأخراً، ومع توقف التفكير لزم عليّ الخروج إلى الشارع، فالاختلاط بالناس ورؤيتهم كفيلٌ لي ولغيري بالإلهام الكتابي، وبحثت عن مكان قريب من بيتي، فجلستُ في مقهى منتظراً رؤية نموذج غريب يُحرك مكنوني في الكتابة، ويبعث على التفكير، حيث تتابين درجة الكُتاب في درجة الحساسية والمشاعر لالتقاط مثل هذه النماذج الغريبة.
جلست مدة في هذا المكان المملوء بالناس، الصاخب بأصواتهم والمزعجة في بعض الأحايين، أنظر في وجوههم، وألتفت لحركاتهم، وأترقب تصرفاتهم، فحياة الناس لاشك حُبلى بالأفكار والحوادث، لكن لم تتوارد عليّ أيّ فكرة تصلح أن تكون مقالاً، فرجعت من حيث جئتُ في هذا الظلام الحالك دون الوصول إلى فكرة، أو مشاهدة مشهد يصلح أن يكون بداية لي.
نظرتُ بعد دخولي إلى هذه الصفحة البيضاء، وتذكرتُ ما يمكن أن نطلق عليه (متلازمة الصفحة البيضاء)، وهو مرضٌ عضالٌ يلزم المشتغلين بالكتابة والتصنيف، ولا يكاد يخلو منه أحدٌ، حيث تجلس أمام هذه الصفحة البيضاء ساعات، ولا تجد كلمات أو عبارات تعبر بها عما في نفسك، وربما تَكتب -كما كتبت- سطراً، وتُمزق كما مزقت الورق، فيتجمع من حولك مجموعة من الأوراق الملقاة على الأرض.
هذه المتلازمة للصفحة البيضاء داءٌ شديد يصيبنا، وهو أن تحبس الأفكار، وتختبئ الكلمات، ودائماً ما أصف المبعثر في حياته البعيد عن تحديد أهدافه بأوراق كاتب حائر يكتب سطراً ثم يمزق ورقه.
حاولتُ كتابة أي شيء ليستريح هذا الفكر المتعب، وهذا الجسد المرهق، فكانت هذه الكتابة، وهي كتابة مقالة بلا مقال، وتسطير عنوان بلا عنوان، وعبارات دون ترتيب، وكلمات دون تنسيق، لكني أجزم بأن فيها الكثير مما يستفاد منه.
ما سطرته أناملي هنا من كلمات هو وصف حالة بعض الكُتّاب، فلا يدري القراء كيف يصل إليهم المقال؟ وهذا المعنى كان ينبه عليه كثيراً الأستاذ أنيس منصور، وعلى كل حال فكتابة المقال يحتاج جهداً ليس بالسهل، حيث يبدأ التعب من الفكرة إلى الانتهاء من كتابته كاملاً.
لا يهم الكاتب وهو في طريقه لعالم الكتابة ما وصل إليه من جودة كتابته أو النبوغ في كل مقالاته، أو سمو أسلوبه، أو انتشار كلماته، أو مكوثه ساعات يومياً في هذا العالم المملوء بالمشقة والجهد، وإنّما المهم أن يظل محافظاً على الكتابة ولو كانت كلماتٍ يسيرة يومياً.
إن كتابة كلمات ولو كانت يسيرة ستبقيك في عداد الكُتاب وستضمن لك عدم الابتعاد عنها، وسترفع من مستواك الفكري والثقافي عبر الأيام من حيث لا تشعر، فلا تترك الكتابة بحالٍ من الأحوال.
ويبقى أن أكبر هَم في هذه الحياة –وليس بعده هَمٌ- حينما تشعر بآلامٍ وأحزانٍ لا تستطيع كتابتها أو التعبير عنها، فالامتناع عن الكتابة وقتها هو أول طريق الموت، فإذا لم تكن قادراً على الكتابة فلا أظن أنك قادرٌ على مواجهة الموت؛ لأن الكتابة هي الحياة، وهل تحلو حياة بدون كتابة؟!