كيف استطاع جيلكم العيش بدون انترنت؟؟؟
عبد الرزاق أحمد الحسيني
قالها لي طفلي الصغير متذمراً عندما انقطعت شبكة الإنترنت في البيت لمدة ٦ ساعات بسبب عطل في الشبكة العامة.
ولدي البالغ من العمر ١٠ سنوات فقط، يسألني باستغراب شديد، كيف قضينا سنوات عمرنا الماضية دون الاستعانة بخدمات غوغل والواتساب وفيسبوك وغيرها .
وما هي المشكلة يا ولدي في العيش دون نت؟
يا أبي العزيز: أريد حلَ الواجبات المدرسية من خلال موقع المدرسة على الشبكة، ومعرفة الأنشطة الثقافية ليوم الغد في المكتبة، كما أنني بحاجة للتواصل مع أصدقائي لتبادل وجهات النظر حول الذهاب للملعب المجاور لنلعب كرة القدم.
وأريد أن أكمل لعبة (مانيكرافت) التي لم أتمكن من إنهائها البارحة حيث بقي لي إنشاء بعض الأبراج للمدينة التي أقوم ببنائها، إنها مدينة ليس لها مثيل في العالم.
وأريد الاتصال مع جدتي عبر برنامج واتساب للاطمئنان عليها فقد كانت مريضة مساء البارحة.
أبي: هل تصدق أنني لا أستطيع عمل أي شيء بدون الإنترنت، حياتي كلها مرتبطة به.
يا ولدي، أنت لم تحتمل ٦ ساعات بدون انترنت، لقد تحملت ٤٠ عاماً من عمري دون واتساب أو فيسبوك أو يوتيوب.
يا ولدي: كنا نستيقظ في الصباح على أذان الفجر الجميل في حيّنا الصغير، ونصلي جماعةً في المسجد، ونعود لنجد جدّتك تنتظرنا لنتناول طعام الإفطار قبل الذهاب للمدرسة.
كنا نتعلم الرياضيات والعلوم والتاريخ واللغات الأجنبية من المعلم مباشرة ودون معينات أو وسائل تعليمية كالتي في جيلكم، وكنا نتفوق ونفرح بإنجازاتنا، نعود للمنزل ونكتب واجباتنا المدرسية من خلال ما تعلمناه، ولم يكن لدينا سوى الدفتر والقلم وذاكرتنا، وفي المساء كنا نتسامر مع أفراد العائلة ونشاهد برامج الأطفال على قناة تلفزيونية واحدة لا غير، وننام باكراً لنستيقظ على نداء المؤذن لصلاة الفجر.
كنا نزور الجدّة في بيتها كل يومين أو كل أسبوع، ونفرح بحكاياتها, وأسعد أوقاتنا تكون عندما ننام في حجرها.
لم نكن بحاجة للواتساب لنتكلم مع أصدقائنا، بل كنا نذهب إليهم بأجسادنا وأرواحنا لنلعب معهم.
كنا ننتظر العطلة لممارسة ألعابنا الطفولية، كرة القدم الصغيرة، والغمّيضة، واللص والشرطي، والكثير الكثير من الألعاب الشعبية الممتعة.
كانت تكفينا فرحة الانتصار في لعبة (الداما) الشبيهة بالشطرنج، ببساطتها ومتعتها.
كانت جلساتنا العائلية حول المدفأة شتاءً كفيلةٌ بغرس الفضائل والنصائح من والدي، بحكاياته عن والده وأيام الخير والبركة التي كان يعيشها.
كم كانت فرحتنا كبيرة عندما نزور أقاربنا لنلعب مع أطفالهم، ونستمع لأحاديث الكبار المشوقة.
في العيد، كانت ملابسنا الجديدة تنام معنا في الفراش، انتظاراً لفرحة الصباح، حيث (العيدية) التي سنحصل عليها عقب صلاة العيد من الوالد والعمّ والخال، لنشتري بها الحلويات ونركب (الحنتور) أو الطنبر كما نسميه في بلاد الشام.
ومضت بنا السنون، وكبرنا، وتفوقنا في دراستنا، دون الحاجة لبرامج الكمبيوتر والتقنيات الحديثة التي ما عرفناها إلا مؤخراً، تخرجنا من الجامعة بعد جهود مضنية وسهر الليالي الطوال ونحن نقرأ عشرات الكتب والمجلدات والمقررات الجامعية الضخمة.
لم يكن الهاتف الأرضي سوى ترفاً لدى بعض العائلات ، ومفخرةً لأطفالهم، يتفاخرون بها على بقية أطفال الحارة.
كان حدثاً عظيماً في الحارة عندما اشتريت الكمبيوتر، حيث اجتمع الجيران, الأطفال والشباب في بيتنا لرؤية هذا الجهاز العجيب الذي يتألف من عدة أجزاء كبيرة، ويمكّنك من مشاهدة أي فيلم أو برنامج من خلال (CD) دون الحاجة لانتظار يوم الخميس أو الجمعة لتشاهد فيلماً مصرياً في القناة الحكومية الوحيدة، التي كانت تبدأ بثّها بعد عصر كل يوم وتغلق عند الساعة الثانية عشرة ليلاً.
لم نكن نعرف الهاتف الخليوي إلا في عام ٢٠٠٠م، وكان اقتناؤه ثروةً وإنجازاً كبيراً، لم يكن يحتوي ألعاباً ولا شاشة لمس، ولا برامج للتواصل، ولا يوتيوب، ولا واتساب أو فيسبوك، كان مجرد هاتف لا سلكي يساعدنا في حلّ الكثير من مشاكلنا الطارئة.
يا ولدي: أنت تستغرب من حياة أبيك دون إنترنت، وكلّ يوم تتكشف لنا الكثير من المعلومات والأخبار عن ابتكارات جديدة غير مألوفة، فمعظم التقنيات الحديثة التي بين يديك، لم تكن معروفة قبل سنوات قليلة مضت، وستشاهد تقنيات أحدث منها في كل يوم، لأن الحياة مستمرة، والتطور التقني أسرع من الضوء، وستكبر يا ولدي وتتزوج وستنجب أطفالاً، وربما سيضحك أطفالك من الضعف التقني الذي عشته أنت وأبناء جيلك، وسيستغربون من قدرتكم على تحمل الحياة بدون طائرات شخصية، أو سيارات تغوص تحت الماء، أو عدم قدرتهم على السفر كل يوم بين قارات العالم، أو ربما سيحزنون عليكم لأنكم لم تتمكنوا من زيارة القمر في كل عطلة أسبوعية.
يا ولدي: عاش أجداي بلا كهرباء ولا سيارات ولا هواتف, وكانوا سعداء جداً – وفق مفهومهم للحياة في تلك الفترة – فلا يمكنك أن تنظر لمدى سعادتنا أو تعاستنا وفق منظور جيلك, بل عليك النظر إلى الأشياء التي كانت تجلب لنا السعادة وتراها بمنظورنا نحن.
نعم! ربما تكون التقنية الحديثة وسرعة الحصول على المعلومة ووسائل التواصل والمواصلات السريعة, نعمةٌ كبيرة, وضرورةٌ للحياة المعاصرة, ومصدر للسعادة, ولكن تلك السعادة تُقاس وفقاً لحاجات كل جيل.
ستكبر يا ولدي وتصبح أباً, وستتكلم مع ابنك كما أكلمك الآن, ولكن كما تريد منه أن يخاطبك وفق احتياجاته ومنظوره للحياة, أنت أيضاً عليك أيضاً أن تخاطبه وفق منظوره هو بما يتناسب مع عمره, مع الحرص على عدم الإفراط أو التفريط, فلا يمكن أن تكون النظرة إلى الحياة والتربية شمولية بمنطق واحد وفق منظورك فقط, ولتجعل قانونك في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية تربية الطفل:
(لاعبه سبعاً, وصاحبه سبعاً, وأدّبه سبعاً).