أقلها: “قل خيرا”
أحمد بن سالم الفلاحي
مساحة مشرعة أمامنا على امتداد الأفق تبسط أرديتها لمن يريد أن يتحرر من استحكامات ذاته القابضة بقوة الشح، وبحرص تأثير المال على النفس، “المال” هذا الهيلمان الذي يزداد تطاولا كلما وجد أنفسا ترعاه، وتحيطه بالعناية، فالمال مارد متوحش، وبقدر ما يسيل لعاب من يقتنيه، ويكبكب عليه، بقدر ما يزحف على تلابيب مشاعره من الجهات الأربع فلا يدع له مجال الحركة ليشعر بحريته، ولذلك فالذين ينفذون من هذه الاستحكامات كلها هم أولئك الذين انعتقت نفوسهم من سلطته وجبروته، ولذلك حق لهم الثناء، وهم ليسوا قلة وان تضآل عددهم في مساحة زمنية او جغرافية.
والإنسان بطبيعته الخلقية يجد نفسه “بخيلا” بكل معنى الكلمة، وهذا البخل لا يقتصر على مفهوم المال المتداول، وإنما يذهب إلى كل ما يتخذه الإنسان من وسائل للتعامل مع الآخر، وهو تعامل مشرعة أبوابه في كل الاتجاهات، فالكلمة صدقة، كما يقال، والمعاملة الحسنة صدقة، والابتسامة صدقة، وقول الخير صدقة، وكف الأذى عن الناس صدقة، “وإماطة الأذى عن الطريق صدقة” كما جاء في النص، حتى الرائحة الطيبة التي يشمها الناس منك هي صدقة، وبقدر هذه الصدقات المتشبثة بتلابيب ثوبك، هناك في المقابل كلمة مضادة هي “الأذية”، فلكي تكون مؤذيا للآخر من حولك، هو عكس ما يذهب إليه مفهوم الصدقة، وعلى الإنسان منا أن يختار الطريق الذي يستحسنه، إن كان خيرا، أو كان شرا، ولا يجب تجاوز الفهم في هذه الناحية، وهو التجاوز الذي يقال لك فيه أن فلان لا يدرك ذلك، فكلنا ندرك، وبإمتياز، مواطن الخير، ومواطن الشر، وكل يذهب إلى ما تتوق إليه نفسه، دون اجترار للمعاني، ودون اجتهاد في المفاهيم.
ولذلك يقال لك: “لا تتوقف عن العطاء أبدا بحجة أنه لا أحد يستحق فربم كنت محقا ولا أحد فعلا يستحق، ولكن ماذا عنك “أنت”؟ ألا تريد استحقاق الأجر من الله”، عبارة جميلة، فالمسألة لها كفة أخرى مقابلة، وحياتنا كما هو معلوم بالضرورة غير مربوطة بعلاقتنا ببعض كبشر، بل لها ميزان آخر، أو كفة أخرى مقابلة، وهي كفة عادلة بامتياز، وهي الكفة التي تنتصر إلى تعاليم الله عز وجل، وهي الكفة التي تنضوي تحت مفهوم (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)، وهي قمة العدالة من رب العباد، لليقين الموجود أن حياتنا مرهونة بين خير وشر، والعاقل من يدرك التفريق بين خيره لنفسه وللآخرين، وبين شره لنفسه وللآخرين، وهو الفهم الذي تشير إليه العبارة التالية: “كل منا يقدم خدمة جليلة لهذا العالم المحتقن، كلما بدأ بنفسه ومضى في إصلاح ذاته، كلما كف شره ولم يمنح الا “أفضل” ما عنده”.
أتصور أنه بقليل من التأمل المطالبين به دائما، نستطيع أن نجنب أنفسنا الكثير من المزالق، كما نستطيع أن نزيد في أعمارنا إتباعا، فبذل الخير هو اتساعا لهذا العمر، لأن الخير يفضي دائما إلى الرخاء، والرخاء معناه زيادة في مفهوم الحياة حيث تتسع الرؤية ولا تضيق، أما العكس من ذلك فاننا نضيق من امتداد المساحة الزمنية والجغرافية للحياة، فتضيق الحياة أكثر، وتحتقن النفوس أكثر، ولذلك قيل: “ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”، وفسحة الأمل باتساع العطاء كيفما كان هذا العطاء، إذن نحن أمام مشروع إنساني كبير نعظم دوره بأنفسنا الراضية، ونقزم دوره بأنفسنا القابضة المتأزمة بلا مبرر.