فوضَعت لي النجوم
عبير البادية
كعادتي أمضغ علكتي وأضع العطر على ثيابي لأتأكد من خلو فمي وثيابي من رائحة التبغ ثم أدخل إلى المنزل فأرى أختي منهمكة على شاشة التلفاز تشاهد فيلمها المفضل، أهمّ بإغلاقه لإغضابها لكن الكحة تقتلني؛ لا تتوقف، أشعر بالدوار، وجسمي يشتعل من الحمى، أرى سوادًا ثم لا أرى شيئًا.
أفقت على بكاء أمي، تنظر إلي ودموعها تنهمر وأبي يخفي وجهه كي لا تظهر الدموع في عينيه. “ما الذي يحدث؟” صرخت بهم: “أين أنا؟ ماذا حدث ؟ ما هذا الحزن ؟” صارحني الطبيب بأنني أعاني من سرطان الرئة وعلي أن أجري العملية الجراحية لاستئصال الورم قبل أن يكبر ثم علينا البدء بالعلاج الكيماوي لضمان موت جميع الخلايا السرطانية. ضاق بي الأفق، أصبحَت الأرض مجرد كرة تنس صغيرة، شعرت وكأن الأضواء تشع ظلامًا، كيف حدث هذا؟ لا زلت صغيرًا، لا أعلم أي شيء عن هذا المرض، كل ما أعرفه أن العلاج الكيماوي سوف يسقط شعري، بكيت كثيرًا إلى أن أخذتني غفوة .الردهة خالية، أمشي بخطوات متثاقلة، دموعي حجبت رؤيتي نحو المصعد، أختار الطابق الأخير، لن أعيش هذا العذاب، سوف أنهيه، أريد إيقاف هذا الكابوس حالًا. أقف على الحافة خطواتي ترتجف، وفجأة: “عبدالله، إلى أين؟” إنني أعرف هذا الصوت جيدًا، إنه صوت أختي ديم التي تصغرني ببضعة أعوام، إنه صوتها حين تختنق بعبراتها .التفتّ نحوها فقالت: “ما الذي تفعله؟ كيف تفعل شيئًا كهذا؟ هل جننت؟ كيف لك أن تلقي بنفسك إلى التهلكة بينما يفتح لك الله طريقًا لتتطهر من ذنوبك؟ ألم تفكر فيمن يحبونك ويهتمون لأمرك؟ كيف سيصبحون حين ترحل؟ كيف لك أن تترك هذا المرض الخبيث ينتصر؟ “كانت الدموع تنهمر على وجنتيها بغزارة وقد بح صوتها من فرط البكاء حين قالت: “اسمع، سأتركك الليلة تبكي وتنتحب قدر ما تشاء، فقط لتستوعب ما أنت فيه، ولكن الغد سيكون مختلفًا؛ سنقف معًا لنضع خطة نجابه بها هذا الخبيث، لن نجعله يؤثر علينا، لن نجعله ينتصر، نحن أقوى من ذلك، أتفهم؟” اقتربت منها وعانقتها فلم يكن هنالك المزيد سوى الصمت ودموعنا.
نهضتُ في اليوم التالي ووجدتها تنام على الكرسي المقابل لي واضعة رأسها على سريري بالقرب من يدي، متشبثة بها كطفل يخشى أن يتوه عن أهله، أفاقت حالما حركتُ أصابعي وبدأنا بالتخطيط. كانت استراتيجية القتال على حد قولها “الابتسامة والقوة”، علي أن أكون قويًا، وإن لم أستطع يكفي أن أتظاهر بذلك ؛ فلا أحد يلاحظ الفرق وعلي أن أوقف تغذية هذا الخبيث (أتوقف عن التدخين). بعد أسبوع سيبدأ الفصل الأخير لي في الجامعة، قبل أن أنال البكالوريوس في الهندسة المدنية، في البداية لم أكن أرغب بأن أكمل دراستي، ظننت بأن حياتي الجامعية ستنتهي بمجرد إصابتي بالمرض، فأنا لست من محبي الدراسة والاجتهاد على كل حال، لكن رأي ديم العنيدة كان مختلفًا فالدراسة هي أحد الطرق التي سأظهر بها للمرض كم أنا قوي – على حد قولها – سمعتها توصي والديّ خارجًا على إبقاء الأمر سرًا عن الجميع؛ لأنها تخشى علي من نظرات الشفقة، فللحالة النفسية أثر كبير في العلاج . استغربت إلمامها بكل هذه الأمور ثم تذكرت أنها كانت طوال ليلة البارحة تبحث من خلال هاتفها وقد نامت لساعات قليلة فقط، كما أصرت على والديّ أن تكون من يعتني بي طوال فترة مرضي. لقد كانت قوية أو تظاهرت بذلك. على كل حال تمت العملية بنجاح وجاء ما بعدها -جلسات العلاج الكيماوي – والتي كانت أسبوع كفاح وآخر هادئ كما وصفناه أنا وديم، كنت أشعر بنار تسري في أوردتي عند العلاج، ناهيكم عن الإحساس الشديد بالغثيان والإجهاد الذي واجهته، ولكن ديم كانت معي في كل خطوة، كانت تضع رسالة كل صباح لتذكرني بأنني قوي وشجاع وكانت دائمًا تبحث عن طريقة لتجعلني أنسى الألم، وأخيرًا وجدناها: لقد تذكرت كم كنت أحب الرسم في أيام المدرسة، لذا عدنا بتلك الأيام وقررت أن أعود للرسم. تعرفت على من حولي من محاربين وعرفت كم نحن محظوظين؛ كم أحبنا الله فابتلانا لنصبر فنؤجر. مضت الثلاثة أشهر الأولى وأنا أحاول إعادة عهدي مع الرسم مثلما كان وقد نجحت أخيرًا وبعدها قررت أن أفتتح معرضًا للوحاتي، أتبرع بأرباحه لجمعيات محاربي السرطان.
أنهيت الستة أشهر من العلاج، اقتربت خلالها من الله كثيرًا وتعلق قلبي به وتخرجت من الجامعة بتفوق مع مرتبة الشرف ولم أقترب من التدخين منذ بدء العلاج وجاء اليوم الذي أفتتح فيه معرضي الفني وقفت لألقي كلمتي: “سيداتي، سادتي، حضورنا الكريم، أما قبل: إني أفتتح هذا المعرض اليوم بهذه اللوحة وأنا أرى المقولة “وراء كل رجل عظيم امرأة” مقولة ناقصة في الواقع فالأصح أن نقول: “وراء كل رجل عظيم امرأة أعظم” وهذه المرأة في قصتي تكون أختي ديم” أرى عينيها تتلألأ وأنا أشكر صبرها وتحملها لي في أصعب أيامي “إنها سبب تفوقي الجامعي، وافتتاحي للمعرض وشفائي من السرطان بعد الله تعالى هي من قالت لي: “هذا حزنك وهذا كتفي” رغم أنه كان هزيلًا لا يتحمل، لكنها تحملت معي ما لا طاقة لها به، إنها سبب وقوفي الآن بينكم ونعم الأخت أنت يا ديم وهذه اللوحة رسمتها لكِ، أما بعد: فإني تساءلت كثيرًا أثناء فترة علاجي: لم علينا أن نقترب من الموت ونشعر بأننا سنخسر الحياة حتى نقرر أن نعيش؟”