2024
Adsense
مقالات صحفية

القرية والمدينة .. علاقة تضاد وتكامل

 

أحمد بن سالم الفلاحي

shialoom@gmail.com

حتى عهد قريب؛ شكلت المدينة في المخيلة الطفولية شيئا من الأهمية، وهذه الأهمية أوجدتها تلك الصورة الاحتفالية المعروفة عن المدينة: في أبنيتها الضخمة، وشوارعها الفسيحة، ومحلاتها الكبيرة، وأماكن ترفيهيتها المتعددة، وبالتالي فهذه الصور كلها عندما تجتمع في مخيلة طفل لأول مرة يزور المدينة، تكبر هذه الصور، مع مرور الأيام، ويكبر معه الحلم بزيارات متعددة، وقد يصل إلى التفكير للعيش فيها بعد أن يكبر العمر ويتحدد الاتجاه، ولذلك تحجز هذه المخيلة مساحة واسعة لا بد أن تملأ بين فترة وأخرى، لأن الصور المماثلة في القرية لن تلبي هذا المخيال الحلم الذي يراود الطفولة بين فترة وأخرى، والغريب في الأمر أن هذه الصور تتلاشى كلها – كأهمية – مع كبر السن، وتولد ردة فعل مغايرة تماما لما هو مألوف، حيث تبدو المدينة متعبة بشوارعها المزدحمة، وعماراتها التي تكسر امتداد الرؤية البصرية، وتتقلص الروابط الاجتماعية، حتى ليخيل أن الواحد يعيش بنفسه ولنفسه إلا  الاستثناء، والاستثناء، كما هو معروف، لا يحسب على القاعدة العامة.

ومع هذه الصورة الفعل، وردة الفعل المعاكسة تظل المدينة إحدى المناخات المهمة لتحقيق الكثير من الآمال والطموحات، فمجالات العمل المختلفة، وتوظيف الطاقات والأفكار الإبداعية، والانتقال من حالة العسر إلى حالة اليسر، في بعض الأحيان، حالات تنجزها المدينة أكثر، وتظل القرية بكل هدوئها وحميمتها وتقاربها، هي الملاذ الآمن لمن أنهكته صور المدينة النافرة والمستنفرة، وعلاقة التضاد والتكامل هذه قرأناها في مناهج الدراسة منذ أن كنا صغارا، ونعيشها اليوم كبارا، وندرك تفاصيلها الكثيرة، ونعيش مفارقاتها المتعددة، والحكم على الصورة في شموليتها يبدو حكما نسبيا، فما تولد من قناعات لدى فرد، قد لا يتفق مع فرد آخر، فكلا المكانين؛ القرية والمدينة؛ يقع في نفس أحدنا ما لا يقع في نفس أحدنا الآخر، فالاتفاق المطلق صعب، ولكن المتفق عليه أن هناك ما يميز القرية ويضع لها اعتبار الأهمية، وهناك ما يميز المدينة ويضع لها اعتبار الأهمية أيضا، وإن كانت قرية اليوم تقترب كثيرا من المدينة، فهي تعيش نفس المخاض الذي تعيشه المدينة، كما تعيش المدينة مخاضا أكبر يقربها إلى المدن الأكبر فيذهب بها إلى تعقيد أكبر يحرم سكانها الأصليين من الاستمرار فيها، حيث يذهبون إلى المدن الأصغر التي كانت في يوم الأيام قرى بكل ما يحمله معنى القرية.

يستوقفني في هذا الطرح مقولة جميلة لفيلسوف الهند المعروف المهاتما غاندي، وردت في كتاب (زمن الاصولية – رؤية للقرن العشرين) للدكتور مراد وهبة، تم استعراضه في جريدة عمان في عددها (12631). الصادر في الاول من يناير2016م، وهي مقولة تحتاج إلى كثير من التمعن، يقول فيها: “إنني لا أسمح بأن تنتج المدينة ما يمكن أن تنتجه القرية، ويتساءل؛ لماذا؟ لأن إنتاج القرية يشبع الحاجات الاساسية بينما ما تنتجه المدينة يشبع الرغبات وثمة فارق كيفي بين الحاجة والرغبة، إذ الرغبة تولد الشراهة بينما الحاجة تولد الاكتفاء، ومن هنا تكون الحضارة ملازمة للقرية دون المدنية …”.

وهذه الصورة التي يرسمها هذا المفكر ربما تعود واقعيتها إلى زمانه أكثر من اليوم، ففي ظل مفهوم العولمة اليوم، لم يعد للقرية ذلك الانتاج الذي يحقق الاكتفاء، فالأنظار تشرئب إلى المدينة، فهي التي تحقق الاكتفاء وتشبع الرغبات، فالقرية لم تعدد تشبع الحاجات الأساسية لأنها أصبحت صورة ممسوخة للمدينة، وليس كما كان العهد أيام غاندي.

 

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights