صفحة بيضاء
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
ننطلق، عند الحديث عن هذه الصورة، من نص: “كل مولود يولد على الفطرة …”، وعندها تتسع الرؤية، وتذهب بعيدا إلى حيث المناخات المؤثرة في حياتنا، لتحول صفحاتنا الفطرية إلى خربشات لا أول لها ولا آخر، ويتغمق اللون أكثر كلما كسبنا عمرا مضافا من السنوات، ومن التجارب، ومن المواقف، ولذلك نرى، من خلال المشاهدة، وربما المعايشة أيضا، أن سكان الصحراء، والأرياف أقرب إلى البيا ض منه إلى ضبابية الصورة، ذلك أن الملوثات تظل قليلة في تلك الآفاق الشاسعة من الإمتداد الأفقي، ولا نذهب إلى عمق الصورة، لأنها لا تزال ترسم خطوط نشأتها الأولى حيث المعنى: “كل مولود يولد على الفطرة …”.
تربكنا صورة المدينة المزخرفة، حيث ضخامة العمارة، وتعقيدات الطرق، ومتاهة الأسواق، و”مكياجية” العلاقات، و”خائنة أعين” المصالح، وما “تخفي الصدور” أبعد وأبعد، هذه الصورة المعقدة في تكورها المشاهد، والمعايش الذي تحفل بها كل المدن، هي العنوان الكبير لها، دون استثناء، وأنما تختلف الصورة حسب حجم المدينة وعمق تجربتها، وبالتالي فأبناء المدن، إلا الاستثناء، هم مضطرون لأن يكونوا وفق هذه الصورة المعقدة، لأنهم في أحوالهم المختلفة لا بد أن ينضموا تحت لوائها المهيمن، ولذا نرى ونشاهد في كثير من الأحيان ذلك القلق الذي ينتاب زائر المدينة لأن مناخاتها المختلفة هذه تربكه وتقلقه الى حد بعيد، هذا فقط من مشاهداته الأولى من حيث الضخامة والتعقيد، دون أن يسجل ملاحظة واحدة لمفهوم العلاقات بين أفرادها المتكورين تحت لوائها.
ليس من اليسير أن تظل الصفحة بيضاء منذ نشأتها الأولى حيث “كل مولود يولد على الفطرة …”، ربما تأخذ المدينة نصيب الأسد في تعميق الخربشات، كما هو الفهم “التجريدي” عند أصحاب مدارس الفن التشكيلي، ولعلهم استجلبوا هذا المفهوم من القصة الممتدة التي ترويها المدينة لساكنيها، لأنهم لو ذهبوا إلى الريف، أو القرية، أو الصحراء لعادوا إلى تشكيل هذا المفهوم بما يقترب من مفردات هذه البيئات كلها، كما أتوقع، وهي بيئات شديدة الوضوح إلى حد كبير، وسهلة التعاطي، وسرعة هضم معانيها، كما هو حال الشاعر علي بن الجهم الذي زار أحد الخلفاء العباسيين، كما تذكر المصادر ذلك، فعندما مدح الشاعر الخليفة حمل القصيدة بالمفردات الشائعة عنده: الدلو، والتيس، والكلب، القروع، الخطوب، وغيرها، وعندما استضافه الخليفة في إحدى قصور بغداد، تغيرت مفردة الشاعر، فتحولت المعاني إلى كثير من الرومانسية، وكثير من اللطف، ومن هنا نرى بعض المفردات اليوم المتجردة من كثير من المعاني التي كانت شائعة في زمن ما، حيث تعكس قصة الحياة اليوم، ولذلك هي تذهب إلى التجريد المطلق الذي يعكس حالة المدينة اليوم، وتظل المدينة مؤثرة أكثر لأن هيلمانها المبالغ في تجسيده والذي أقره الأفراد في جميع مناخات حياتهم هو الذي أعطاه هذا الاستحواذ وهذه السيطرة.
هنا استحضر أيضا قول الشاعر : “حسن الحضارة مجلوب بتطلية: وفي البداوة حسن غير مجلوب”، فخربشات الحضارة حولت الصفحة البيضاء في نفوسنا إلى كثير من التشويه، ونحن نستعذب هذا التشويه لأن به صورة احتفالية زاهية في توقيتها، ولكنها تسلب منا أشياء كثيرة، حيث نقتطع منها الكثير من مبادئنا، وقيمنا، وقناعاتنا، وحقائق أنفسنا، نرتهن في نهاية المطاف على ما تبقى فقط من فتات المدينة، وهي ما لا يغني ولا يسمن من جوع، حيث نعكس صورا مشوهة، ونتكئ على قيم معوجة، حيث تسارعنا كثيرا في الإكثار من خربشات صفحاتنا البيضاء لأجل فتات لا يوازي قيمة المفقود.