مسؤولية التنشئة
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
يبدو، كما هي القناعة التي نقرأها في تفاعل الآخرين مع مختلف الأحداث، أن كل ممارساتنا في الحياة يجب أن تعاد منطلقاتها إلى التنشئة، وهي قناعة مترسخة في ذهنية الكثيرين من الناس، ولست أدري إن كان هناك مبرر قوي يستند عليه من تكون عنده هذه القناعة، أو أن المسألة فقط هي الهروب من تحمل المسؤولية، وفي كلا الحالتين أرى أن تحميل نتائج السلوكيات على التنشئة فيه مبالغة على المفهوم، فالإنسان كما هو معروف أيضا له القدرة على التكيف، وله القدرة على المراجعة، وله القدرة على التغيير، وله القدرة على هضم المواقف، وله القدرة على استيعاب المتغيرات، والمسألة لا تحتاج كثيرا من التدليل، فالواقع أمامنا يؤصل كل هذه الصور، وإن كان البعض يرى أن هناك أناسا لهم القدرة على إخفاء عيوبهم الحقيقية التي منشأها الفطرة، ولا يظهرونها إلا في الساعة التي يرون ظهروها أمرا حتميا.
نسمع أيضا المثل: “ضعيف الطبع يرجع إلى الأصل”، ولكن هل المقصود هنا “الطبع” الفطرة أو الخلقة السلوكية التي تلازم الإنسان طوال حياته، أم أنه المكتسب السلوكي الذي يكتسبه الإنسان من خلال تعاطيه مع الآخرين من حوله، وفي هذه الحالة كيف يمكن نسب ذلك إلى الأصل، وما هو الأصل، هل هو المادة المعنوية المتخيلة وغير الظاهرة عند كل منا، أو أن الأصل هو الفطرة، وما هو المحدد الأهم في نسب السلوك وإلصاقه إلى الأصل، وهل كل سلوك مشين مرده إلى أصل مشين، وأي سلوك حميد مرده إلى أصل شريف، وما هو الشرف أيضا، لأن كل هذه التنظيرات نجد لها نقائض على الواقع، ويصبح من الصعوبة بمكان الاعتماد الكلي على مثل هذه التعابير أو الأمثال التي يتداولها الناس، لأن كل طيف اجتماعي ينطلق من نظرته هو إلى الأشياء من حوله، وبالتالي فكل ما يراه مسيئا من وجهة نظره يرفضه، ويلصقه إلى الفئة الأخرى المناوئة له، سواء مظاهر هذه المناوئة مادي كالمال، أو معنوي كالوجاهة، وكل فئة تنتصر لذاتها خوفا على كينوناتها في المجتمع الذي تعيش فيه، وهذا واقع مشاهد ومعايش.
ومن الحقائق الصادمة أو التي تناقض هذه القناعات عند أبناء المجتمع، أن من ينسب – تنظيريا – إلى مستوى نسب معين، كما يقيّمه أبناء المجتمع على أنه “أصيل” هناك من يأتي من أبناء هذه الفئة بأفعال مشينة يندي لها الجبين، والعكس تماما، من ينسب – تنظيريا – إلى مستوى نسب معين، كما يقيمه أبناء المجتمع على أنه “وضيع” يأتي بأفعال في مستوى الرقي، فهذه الاستثناءات التي تحدث في كلا الحالتين، بقدر ما هي جديرة بالدارسة، هي تؤكد على أن هذا النسب الذي يقره أبناء المجتمع لكلا الفئتين ما هو إلا قناعات أفقية في الفهم، وليس لها دليل علمي ولا عملي تتجذر من خلاله وتتأصل، وإنما هكذا ينظر إليها في حالاتها الاستثنائية، ويظل البشر هم البشر في أفعالهم الحسنة والسيئة، وكل ما تروج له القناعات ما هو إلا مفاهيم مغلوطة تحتاج إلى كثير من الدقة، وإلى كثير من التجربة، وإلى كثير من الاختبار والتمحيص، وهي قناعات توارثتها الأجيال لا غير، ولا تعبر عن حقائق مطلقة أبدا.
والمسألة كلها، أن سلوكيات الإنسان المصاحبة له طوال حياته، هي عبارة عن مكتسبات من الممارسة المباشرة في الحياة، تأتي الخبرة لتعطيها عمرا آخر ممتدا، ويزداد تنوعها وإجادتها سلبا وإيجابا، بمقدار الممارسة اليومية، وتحصيل مجموع الخبرات المكتسبة بصورة يومية.