الأحد: 14 ديسمبر 2025م - العدد رقم 2764
مقالات صحفية

الحياة الزوجية بين تفكك القيم وابتلاع التقنية

يعقوب بن راشد بن سالم السعدي

لم تعد الحياة الزوجية اليوم كما عرفناها قبل سنوات، في وسط تسارع اجتماعي هائل، طغت التقنية على تفاصيل العلاقات، وغيرت طبيعة التواصل بين أفراد الأسرة، حتى باتت كثير من البيوت تقف على حافة الانهيار بصمت، بينما تتكاثر القضايا في المحاكم ويزدحم طريق لجان التوفيق والمصالحة بأزواج لم يعد بينهم سوى الخلاف.

لقد فرضت الحياة الاجتماعية الحديثة واقعًا جديدًا على الأسر، كان أثره واضحًا على الزواج تحديدًا، فبينما كان البيت في الماضي مساحة للدفء والحوار، أصبح اليوم مساحة صامتة يجلس فيها الزوجان تحت سقف واحد، لكنهما يعيشان في عالمين مختلفين، يربط بينهما جهاز صغير اسمه الهاتف، لكنه يفصل بين قلبيهما أكثر.

من أكبر أسباب التفكك الحالي الانزلاق غير الواعي إلى دوامة التواصل الاجتماعي. تطبيقات مثل إنستغرام وفيسبوك والواتساب وغيرها ليست مجرد أدوات للتواصل، بل أصبحت عند البعض أبوابًا خلفية للهروب من الضغوط، أو للبحث عن اهتمام مفقود، أو لتجربة فضولية تتطور دون قصد حتى تتحول إلى علاقة حقيقية.

ونحن أمام حالات واقعية تتكرر حتى أصبحت مألوفة: زوج اكتشف أن زوجته تتحدث مع رجل آخر عبر الرسائل الخاصة، أو زوجة وجدت أدلة على تواصل زوجها مع نساء لا يعرفهن إلا من خلال الشاشة. هذه السلوكيات لا تُقاس بخطورتها التقنية، بل بكونها تهز الثقة، والثقة إذا انهارت سقط كل ما فوقها.

في ظل هذا الانشغال الافتراضي، تراجع دور الوالدين تراجعًا مخيفًا، لم يعد الأب أو الأم يجلسان ليستمعا إلى أبنائهما، لم يعودا يلاحظان تغيراتهم، مخاوفهم، أو حتى احتياجاتهم الأساسية. يكبر بعض الأبناء اليوم في بيوت هادئة ظاهريًا لكنها فقيرة عاطفيًا وتربويًا، فيتجهون إلى الخارج بحثًا عن إجابات كان من حقهم إيجادها داخل البيت.

وتبدأ الفجوات بالتوسع: غياب الحوار، ضعف الثقة، زيادة المشكلات، تفكك لا يُدرك إلا بعد أن يصبح علاجه مكلفًا. عندما تتقدم المغريات وتتراجع المبادئ، لم يعد طريق الانحراف الأسري يحتاج جرأة، فالمغريات اليوم متاحة بضغطة زر.

وما بين رغبة ضعيفة ونفس غير محصنة، تتولد سلوكيات تجر أصحابها إلى أخطاء تهدم البيوت، وتفتح أبوابًا لا تُغلق بسهولة. هناك من نسي الميثاق الذي بدأ به زواجه، وتجاهل القيم التي تربى عليها، وسمح لعالم سريع الإغواء أن يخترق مساحته الخاصة، وهكذا تتحول الأسرة شيئًا فشيئًا إلى كيان هش، لا يستند إلى يقين ولا إلى التزام.

الزواج لا يعيش على الصبر وحده، بل على الوعي أيضًا. إن الحياة الزوجية اليوم تحتاج إلى وعي أكبر من أي وقت مضى، فالضغوط الاقتصادية، وتغير نمط الحياة، والانفتاح الرقمي، كلها عوامل تجعل من الضروري أن يعود الزوجان إلى أساسيات العلاقة، ومنها على سبيل الضرورة: الحوار الصريح الذي يُعيد المسافات إلى حجمها الطبيعي، الاحترام المتبادل الذي يُحيي الثقة، الوفاء للعهد الذي تعاهدا عليه، الرقابة الذاتية قبل أي رقابة خارجية.

فليس الزواج مجرد عقد، بل هو شراكة روح ومسؤولية وأمان. وإذا غاب الأمان ماتت الشراكة مهما صمدت الشكليات. يظن البعض أن ما يحدث في خلف الكواليس الزوجية سيظل خفيًا، وأن الانشغال المفرط لن يُلاحظ، وأن الأبناء لا يفهمون، لكن الحقيقة أن كل شيء يُرى، وكل أثر ينعكس، وكل فجوة صغيرة تتسع ما لم تُعالج.

لقد أصبحت الأسرة اليوم بين مطرقة المغريات وسندان الإهمال، وما لم يتدارك الأزواج أنفسهم ويستعيدوا قيمهم ومبادئهم، فإن القادم أشد على البيوت والمجتمع معًا. الأسرة هي نواة المجتمع، فإذا تفككت، تفكك كل شيء.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights