2024
Adsense
مقالات صحفية

“١٤٤٠” الهِجرَةُ انتقَالٌ مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ

قَيسٍ بِنِ خَليفَةَ الخُزيريِّ

 

إنَّ حَادثةَ الهِجَرَةِ ليسَت مُجَرَدَ حِكَايةً تُروَى وَإنَّمَا ذِكرَى تَفُوحُ مِنهَا عَبَقُ النَّبُوةِ، وصَوتُ الأُخوَةِ، تَبَدَدتْ فِيهَا ظُلُمَاتُ الوحشَةِ بِأنوَارِ الرَّحمَةِ، وَبَعَثَتْ فِي النُّفُوسِ الرَّجَاءَ وَالعَمَلَ، تَاركَةً خَلفَهَا القُنُوطَ وَالكَسَلَ، لمْ يَترُك الرَّسُولُ صَلَّى اللّهُ عَليهِ وَسَلمَ مَكَةَ المُكَرَمَةَ التِّي رَفَعَ اللهُ قَدرَهَا وَرَفَعَ ذَكرَهَا إلا لأمرٍ قَدَرَهُ اللهُ تَعَالى ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ ، أَرَادَ اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنْ تَتَعَلمَ الأُمَةُ الإسلامِيّةُ مِن هَذِهِ الحَادثَةَ الدُّروسَ وَالعِبَرَ وَتَأخذَ بِالأسبَابِ فِي كُلِّ خَطبٍ وَأمرٍ.
(١)

إِنَّ الانتِقَالَ مِن بَلَدٍ إِلى بَلَدٍ آخَرَ لا يُمَثِلُ الصُّورَةَ الوَحِيدَةَ فِي الهِجرَةِ، وَإنَّمَا هِي حَيَاةٌ جَدِيدَةٌ حَيَاةٌ سَعِيدَةٌ فِي أَكنَافِ الإيمَانِ وَطَاعَةِ الرَّحمَنِ، بَعيدَةٌ عَن كُربَاتِ الجَاهِليةِ وَعِبَادَةِ الأصنَامِ، يَكسُوهَا القُربُ مِنَ اللهِ السَّلامِ، حَيَاةٌ جَسَّدَهَا المُهَاجِرُونَ وَالأنصَارُ فِي أَروَعِ صُورَةٍ تُمَثِلُ الوَلاءَ وَالإخَاءَ خَلَّدَ القُرَآنُ الكَريمُ ذكرَهَا بِقُرآنٍ يُتلَى إِلى أنْ يَرِثَ اللهُ الأرضَ وَمَن عَليهَا ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ٌ
(٢)

وَيُظِهرُ القُرآنُ الكَريمُ حَالَ المُهَاجِرِينَ وَهُم تَرَكُوا كُلَّ شَيءٍ خَلفَهُم يَقصِدُونَ رِضَا رَبِّهِم فَيَقُولُ الحقُّ سُبحَانَهُ: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ وَيَصِفُ حَالَ الأنصَارِ بِقَولِهِ:﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
(٣)

إنَّ هجرَةَ النَّبِي صَلَّى اللّهُ عَليهِ وَسَلمَ كَانت هجرَةً بِالقَلبِ للوَاحدِ الصَمَدِ قَبلَ أنْ تَكُونَ هجرَةً بِالجَسَدِ، هجرَةً عَن المَعَاصِي وَالشُّرُورِ إِلى المَلِكِ الغَفُورِ، يَقُولُ الرسولُ صَلَّى اللّهُ عَليهِ وَسَلمَ: ((مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إلى امْرَأَةٍ يَتزوجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ)) *فَالمُهَاجِرُ لا يَبتَغِي إلا وَجهَ اللهِ تَعَالى قَد ضَحى بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، يَقُولُ الرَّسُولُ صَلَّى اللّهُ عَليهِ وَسَلمَ: ((المُهَاجِرُ مَن هَاجَرَ مَا نَهَى اللهُ تَعَالى عَنهُ)) فَهُو يَنتَقِلُ مِن الفَسَادِ إِلى الرَّشَادِ وَمِن الفُجُورِ إِلى البِرِ وَمِن الضَّلالَةِ إِلى الاستِقَامَةِ فَيُصبِحُ مُؤمنًا بِاللهِ وَاليومِ الآخرِ يَنتَظِرُ النَّعيمَ وَالفَوزَ بِخَيرّي الدُنيَا وَالآخِرَةِ.
(٤)

مَا أَجمَلَ ذَلكَ المَنظَر والنُّبي صَلَّى اللّهُ عَليهِ وَسَلمَ يُوَاسِي صَاحِبَهُ أبَا بَكرٍ وَيُذكِّرَهُ بِخَالِقِهِ، وَهُو كَمَا يُروَى عَنهُ صَلَّى اللّهُ عَليهِ وَسَلمَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: (( يَا أَبَا بَكْرٍ : مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا، لا تَحزَن إنَّ اللهَ مَعَنَا)) ، ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ هَكَذَا هِي الأُخوَةُ الحَقِيقِةُ فِي اللهِ تَذكِيرٌ وَنُصحٌ وَتَوجِيهٌ وَسَكِينَةٌ وَثَبَاتٌ فِي الإيمَانِ وَعزَّةٌ تَبقَى عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ.
(٥)

إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللّهُ عَليهِ وَسَلمَ حَالُهُ وَهُو خَارجٌ مِن بِلَدِهِ وَمَهوَى فُؤَادِهِ وَمَرتَعِ طُفُولَتِهِ قَالَ ((أَنْتِ أَحَبُّ بِلاَدِ اللهِ إلى اللهِ، وأَنْتِ أَحَبُّ بِلاَدِ اللهِ إليَّ، فَلَوْ أَنَّ المُشْرِكينَ لَمْ يُخْرِجُوني لَمْ أَخْرُجْ مِنْكِ)).
هَكَذَا شَأنُ المُؤمِنِ السَّويِّ يُحبُ وَطَنَهُ وَيَحمِيهِ، وَمِن مَوَاطِنِ السُّوءِ يَقيهِ، يَظِلُ وَافيًا لهُ طِيلَةَ حَيَاتِهِ وَيتَمَنَى ألا يَخرُجَ مِنهُ أبدًا، وَلِهَذَا خَشِيَ الأنصَارُ بَعدَمَا عَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللّهُ عَليهِ وَسَلمَ إِلى مَكَةَ أنْ يَظِلَ النَّبِي صَلَّى اللّهُ عَليهِ وَسَلمَ فِيهَا وَلا يَعودَ إِليهم فَأخبَرَهُم بِمَا أَقَرَ بِهِ أَعيُنَهُم وأثلَجَ بِهِ صُدُورَهُم فَقَالَ: ((كَلَّا إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ ، وَإِلَيْكُمْ وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ)).
نَسألُ اللهَ أنْ يَجعَلنَا مِن الذينَ استَفَادُوا مِن الهِجرَةِ النَّبَويِّةِ فِي التَّزَودِ للحَيَاةِ الأبَدِيَةِ.
(٦)

بِقَلَمِ قَيسٍ بِنِ خَليفَةَ الخُزيريِّ
بِتَأريخِ:
28 ذو الحجة 1440هجريًا،
الموافق30 أغسطس 2019م.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights