نفس تراقب ذاتها …
أحمد بن سالم الفلاحي
ربما من أصعب الحالات أن يكون أحدنا رقيبا على ذاته، ذلك أن النفس ليست يسيرة حتى تخضع لمثل هذا الحصار الذي تفرضه انت، أنا، هو، هي، هم، كلنا، وإن تقبلت مني ومنك، ومنه، ومنها، ومنهم، في لحظة ما؛ اإى حد البكاء، فإن ذلك لن يتكرر بصورة دورية ولو في القريب العاجل على أقل تقدير، ومن هنا يأتي الصراع مرا، ومزعجا، ومقلقا إلى حد التململ، فالمهمة جد صعبة، والمسافة جد طويلة، ولا تزال المعركة مستمرة، منذ أن خلق أبونا آدم عليه السلام، حيث عاش ولداه عسر هذا الامتحان، عندما تقاتلا في خطوة الحياة الأولى، وظل أولاده يتقاتلون منذ ذلك الزمن البعيد، وإلى هذا الزمن البعيد، ولا تزال القصة مستمرة.
هذا الصراع المحتدم، نقيسه على الفرد كفرد، على المجتمع بكل أطياف تكويناته، وعلى العالم كله بمكوناته، حتى الطبيعة تعيش صراع البقاء، فكمية الأحداث التي يتلقاها كوكب الأرض، على سبيل المثال، تقاومها الأرض بجبالها الصلدة، وبتكوينات طبقاتها القاسية، ومع ذلك يكون هناك اختراق مستمر، هنا لا أشير الى معاندة القدر، حتى لا يخرج الطرح عن سياقه، وإنما أضع الصورة المباشرة للأحداث، سواء على مستوى الفرد، أو مستوى الطبيعة، فالله سبحانه وتعالى تتجلى قدرته على كل مخلوقاته، ويتعالى الله علوا كبيرا عن المقارنة، أو التجسيد الذي يكون عليه البشر، وإنما أنظر إلى هذا الصراع المحتدم بمعناه الميكانيكي البحت، لا أكثر من ذلك.
لذلك عندما ينظر الى الرقابة – وهي منشأ هذا الصراع – في تكوينها الموضوعي، يفترض أن تتجلى في كل مناخات حياتنا، وليس فقط في ما نريد، وفي ما لا نريد، لأنه بهذا المعنى تضيع هذه الصورة، ولا تصبح الرقابة عندها ذات معنى مستقل، يجب أن يعطى مساحته الكاملة في التوظيف، وفي التأثير، وهذه إشكالية الكثيرين منا، عندما تتجزأ المعاني، وتجير، وتخرج من سياقها الطبيعي، هذا إشكالية موضوعية في كثير من تعاملنا مع المفاهيم، وهناك القليلون من يستطيعون أن يحرروا أنفسهم من هذا التشابك الذي يحدث، وهم الذين أعطوا أنفسهم فرصة للتفكير أكثر من غيرهم، وهم أمر محمود بلا شك، لأن من يستمرئ الخطأ امتثال لظرف آن، لا يستبعد بعدها أن يعيش هذا الاستمراء بصورة دائمة، لأن الخطأ مادة جميلة وممتعة في وقتها، ومغرية في حد ذاتها، ونتيجة لهذه المتعة الآنية، هناك من يستلذون بقاءهم على الخطأ.
كل الأدبيات تنحو باللائمة على النفس، في عدم قدرتها على كبح ذاتها في استمراء الخطأ، فلا يقال مثلا، أن الفيضانات التي أغرقت المنازل، سببها الرئيس هو هطول الأمطار بغزارة، وانما يقال أن الإنسان لم يأخذ احتياطاته الكاملة في وضع سياجات قادرة على منع المياه من التدفق والاندفاع إلى داخل المنازل، لأن الإنسان عندم أوكلت إليه مهمة بناء الحدود الآمنة، حدثته نفسه أن المال الذي سلم إليه رأى فيه الكثرة، فاستقطع جزءا منه لتحقيق ذات ما من ذواتياته الكثيرة الضعيفة امام المال، أو لسوء تقدير، هكذا حدثته نفسه في البداية، وتأتي اليوم لتلقي عليه أعباء من اللوم والتوبيخ، وتنعته بالغباء، وسوء التقدير.
هذه صورة واقعية لا مراءة حولها، ولا تحتاج إلى كثير من الجدال، ما تحتاجه هو ضرورة المراجعة الصادقة لمختلف هذه التشظيات التي تحدث في هذه العلاقة بين كل فترة وأخرى، ولذلك يحمل العمر، والتجربة الإنسانية الكثير من العتاب عندما تظل هذه العلاقة في حالة تكافئها بين النفس وذاتها على مر السنين والأيام.