قصة الصديقان .. الحلقة الخامسة

فايل المطاعني
بدأت السيدة صفية الحديث مع عمر في أمور كثيرة، فقد كان عمر واسع الاطلاع، ويجيد اللهجة المغاربية. قالت السيدة صفية بابتسامة هادئة:
“علمت أنك كنت تدرس في جامعة السوربون الفرنسية، وأنك معجب جدًا بالمغرب؟”
ردّ عمر، ضاحكًا:
“يبدو أن العصفور قد أخبركم بكل شيء عني!”
فأجابت السيدة صفية بابتسامة رقيقة، بينما ابتسمت منى ابتسامة خفيفة. ثم قال عمر بحياء:
“نعم، كنت أدرس في فرنسا، وأحب المغرب كثيرًا… أهله طيبون، وبناته فاتنات.”
قال الجملة الأخيرة بخجل، وفجأة جاء صوت الخادم معلنًا عن جاهزية الطعام.
على طاولة الغداء، كان الطبق الرئيسي هو بسطيلة محشوة بالسمك بكل أنواعه. قالت السيدة صفية وهي تقدم له صحنه بحركة رقيقة:
“هل تحب طبق البسطيلة المحشوة بالسمك؟ أم تفضل طبقًا آخر؟”
قبل أن تكمل كلامها، دخل الخادم حاملاً صحنًا آخر يحتوي على دجاج محمر مع شعيرية صينية وزيتون أخضر وهريسة وقطع ليمون حامض. قال عمر مبتسمًا:
“هذا يكفي، أيتها الأميرة.”
بعد أن انتهوا من تناول الغداء، استأذن عمر السيدة صفية في التجول في حديقة القصر، خصوصًا أن الجو كان لطيفًا جدًا. فأذنت له، وكان في صحبته ابنتها منى.
تجولا معًا في الحديقة، حتى توقفت منى فجأة، وقالت بنبرة هادئة:
“أنت ومحمد أصدقاء منذ زمن، أليس كذلك؟”
ردّ عمر وهو يمسك بوردة وجدها صدفة على الطريق:
“هو صديق طفولتي.”
وهنا سكتت منى للحظات، ثم قالت بصوت أكثر هدوءًا:
“هل أخبرك عني؟”
وسكتت لحظة، ثم أضافت بلغة مختلفة قليلاً:
“هل قال لك أنه يحبني؟”
ارتجفت يد عمر بشكل مفاجئ، وسقطت الوردة من يده. نظرت منى إليه بنظرة حادة، ثم قالت بلطف:
“أنا أعلم أن محمد يبوح لك بكل أسراره، والاكيد أنه أخبرك بحبه لي.”
اقتربت منه أكثر، حتى أصبحا قريبين جدًا، وأحس بأنفاسها تتصاعد. لكنه فجأة أشاح بوجهه عنها، محاولةً إخفاء ارتباكه.
لم تتحرك منى من مكانها، لكن كان في عينيها لمعة دمعة، حاولت جاهدة أن لا تسقط، لكن دمعة تسرّبت على خديها.
حاول عمر أن يخفف عنها، فخرج من جيبه منديله المطرز ودفعه إليها، قائلاً:
“لا بأس عليكِ.”
أجابت منى بصوت ضعيف:
“الحمد لله، أنا بخير، أشكرك.”
مسحت دموعها وقالت بصوت منخفض، وكأنها تبوح بسرٍ قديم:
“عمر، أنا في النهاية فتاة… أحلم بزوج يجعلني أميرة في حبه واحترامه، وحنانه، وليس رجلًا ضعيفًا أو خائفًا من مواجهة مشاعره. لا أريد رجلًا يرسل صديقه ليحدثني نيابة عنه…”
نظرت إلى الأرض للحظة، ثم التقطت قطعة نحاسية علقت بثوبها وأضافت:
“للأسف، المرأة لا تحب الرجل الضعيف، الذي يتجنب مواجهة الحقيقة.”
قاطعها عمر بلطف قائلاً:
“منى…”
التفتت إليه بنظرة مفاجئة، ثم قالت بفرح:
“أول مرة يخاطبني رجل باسمي المجرد، دون لقب.”
ثم التقطت الوردة التي سقطت من يد عمر وقالت:
“رجل يعاملني كفتاة حالمة… هو أميري، وأنا سيدة بيته.”
ابتسمت وأضافت بحزن:
“أنا أبحث عن حبيب وسط الأزهار، يعشقني كما عشق قيس ليلى… لا أريد سوى حب صادق.”
سكتت قليلاً، ثم استدركت:
“آسفة، قطعت حديثك، ماذا كنت تريد أن تقول؟”
عمر، وهو يشعر بمسؤولية كبيرة تجاه مشاعرها، حاول أن يهدئ الموقف قائلاً، بينما يقطف وردة جديدة ليهدها إليها:
“نعم، محمد أخبرني. اتصل بي فجراً ليقول لي إنه يحبك.”
هنا رمت منى الوردة في الأرض بغضب:
“ألا يجدر به أن يخبرني أنا بدلاً من إزعاج الآخرين؟ أنا صاحبة القرار، وليس أنت!”
أدرك عمر أنه في مأزق، لكن هذا المأزق بدأ يشعره بشيء آخر، شيء يروق له.
أكمل حديثه وهو ينظر في عينيها:
“الحقيقة، قلت له ذلك، ولكن القدر… هناك أشياء نتركها للقدر ليقول كلمته. منها الزوج السيئ، والمرأة سليطة اللسان، وصديق السوء. وأعتقد أن محمد هو أحد هؤلاء الثلاثة.”
ضحكت منى، لكن ضحكتها كانت خفيفة، غمرتها خفة دم عمر. ثم همست بحركة عفوية، وصوت مليء بالحنين:
“لا تخبره بما قلته لك… أريده هو أن ينطقها، بلا تردد أو خوف. ولا يفكر في أنني ابنة الكوس… أريد أن يفكر بي كفتاة مثل باقي الفتيات، التي تتمنى أن تستيقظ في يوم ما وتجد على سريرها وردة جميلة.”
ثم بدأت تدندن برقة:
“لمني بشوق… وحضني… بعادك عني بعثرني.”
في تلك اللحظة جاء الخادم ليقول لهما:
“للالة، سيدي عمر، الأميرة تنتظركم.”
دخل الاثنان إلى الصالة الرئيسية في القصر، حيث كانت السيدة صفية في انتظارهم. أعدت لهما الشاي المغاربي الشهير مع الحلويات اللذيذة.
كان لسان حال عمر يقول:
“يا ترى، ما هذا القدر الذي جعلني أكون لاعبًا في هذه اللعبة بعد أن كنت مجرد متفرج؟”
يتبع


