المرونة الذهنية : فن العبور الآمن في زمن التقلّبات

خلف بن سليمان البحري
ليس هناك ما هو أكثر ثباتًا من التغيّر ذاته. فالحياة لا تستأذننا حين تُبدّل مساراتها، ولا تُمهلنا كثيرًا لنفهم ما يجري. في خضمّ هذا التيار المتسارع، تبرز المرونة الذهنية كفنٍ ناعم، لكنه حاسم؛ كمهارة لا تُرى بالعين، ولكنها تُقاس بالنتائج، وبالقدرة على تجاوز العواصف دون أن يُنتزع من الإنسان جوهره.
لم يعد النجاح رهينًا بالخطط المحكمة وحدها، ولا التفوق مرهونًا بالمعرفة المجردة، بل باتت الحاجة ماسة إلى عقول قادرة على التكيّف، على إعادة التشكّل وفق المستجدات، دون أن تفقد توازنها أو تفريطها بمبادئها. إن المرونة الذهنية ليست مجرد استجابة، بل وعيٌ عميق بأن لكل مرحلة مفاتيحها، وأن الثبات على رأي قديم لا يعني بالضرورة حكمة، بل أحيانًا يكون جمودًا يقود إلى الانطفاء.
المرونة ليست ضعفًا، بل نضج. إنها الهدوء حين يحتدّ الصخب، والبصيرة حين يعمى البعض بالبديهيات. إنها تلك المساحة التي تمنحها لنفسك كي تعيد التفكير، وتطرح الأسئلة بدل أن ترفع الحواجز. في ميدان الإدارة، تَظهر هذه المهارة في القبول بالتغيير كفرصة، لا كتهديد. وفي العلاقات، تتجلّى في فن الإصغاء، وفي القدرة على تقبّل الآخر دون أن تُطالب العالم بأن يشبهك.
وما أجمل الإنسان الذي يُجيد التنقّل بين المواقف بخفة الروح وعمق الفهم، فيفهم متى يتمسّك ومتى يتخلّى، متى يفتح الباب للتجديد، ومتى يصون ما لا يُمسّ من قيم. هو لا يساير الرياح حيث اتجهت، بل يُحسن إدارة شراعه بما يتناسب مع اتجاهها، دون أن يفقد وجهته الكبرى.
وفي الأزمات، نُختبر جميعًا. حين تضيق الخيارات، تظهر المرونة الذهنية كخشبة نجاة، تمنحنا القدرة على تحويل الحائط المسدود إلى منعطف جديد. نُراجع أنفسنا لا ضعفًا، بل شجاعة. ونعيد ترتيب أولوياتنا لا تهرّبًا، بل وعيًا بأن بعض الطرق، لا بد أن تُعاد صياغتها كي نبلغ المدى.
إننا بحاجة إلى أن نربّي أنفسنا على هذه المهارة، وأن نغرسها في الأجيال من حولنا. فالتعليم ليس فقط تكديس معلومات، بل بناء عقلٍ يستقبل المتغيّرات بثقة، لا بذعر. وفي واقعٍ لا يُشبه أمسه، من الطبيعي أن نُعلّم أبناءنا أن النجاح الحقيقي لا يكون في الصعود السريع، بل في القدرة على الوقوف بعد كل تعثّر، وأن الفارق بين العادي والمُلهم، هو ذلك الذكاء العاطفي الذي يجعلنا نُجيد الإصغاء للواقع وتشكيله بدل أن نصطدم به.
المرونة الذهنية، في جوهرها، ليست مجرّد سلوك، بل هي فلسفة حياة. هي إدراك بأننا لا نملك تغيير الريح، لكننا نملك تعديل الشراع. وهي ما يُبقي الإنسان واقفًا، ثابت الخطى، حين يتهاوى من حوله من ظنّوا أن القوة في التصلّب.
فليكن لنا من هذه المهارة زادًا في طريقنا، وسلاحًا في معاركنا الهادئة. ولنعِ أن هذا الزمن لا يُكافئ من يُقاوم التغيّر، بل من يُحسن التعامل معه بحكمة وهدوء وصدق.