مذكرات الولد الشقي ..

فايل المطاعني
الفصل السابع.. الكنز المدفون
أنا الولد الشقي، ذلك الذي لا يمر عليه يوم دون أن يعيش مغامرة، أو يقع في ورطة، أو يبتكر قصة تجعل أمه تضع يدها على قلبها! لا أملك سيفًا، ولا قبعة حقيقية، لكنني أملك خيالًا لا يهدأ، وعينين ترى العالم كأنه لعبة كبيرة. وهذه واحدة من أعظم مغامراتي على الإطلاق… مغامرة الكنز المدفون!
في أحد الأيام الصيفية الحارة، قررت أن أكون قرصانًا. لا أعلم ما الذي جعلني أرتدي قبعة مصنوعة من ورق الجريدة وأرسم شاربًا بالقلم الفحمي على وجهي، لكنني كنت واثقًا تمامًا أنني “الكابتن شقي”… أخطر قرصان في الحي!
وبما أن كل قرصان يحترم نفسه يجب أن يدفن كنزًا، قررت أن أبدأ المهمة العظيمة: دفن الكنز في حديقة جدتي.
جمعت بعض “الكنوز الثمينة”:
– ساعة بلاستيكية مكسورة
– ثلاثة أزرار لا أعرف من أين جاءت
– عملة معدنية صدئة
– نصف لوح شوكولاتة ذاب في جيبي
وضعتها في علبة معدنية قديمة وجدتها خلف الثلاجة (أمي تقول إنها كانت علبة شاي… من التسعينات!). وحملت المعول الصغير الذي نستخدمه في الزراعة، وتسللت إلى الحديقة كأنني في مهمة سرية من الدرجة الأولى.
بدأت الحفر بكل حماسة، حتى أنني حفرت حفرة كبيرة كادت تبتلعني! وبينما كنت أغطي الكنز بالتراب، سمعت صوت جدتي تصرخ من الشباك:
— “مين اللي عامِل مقبرة في الحديقة؟!”
ارتبكت. نظرت حولي فلم أجد أحدًا غيري، فقلت بصوت بريء جدًا:
— “أنا بدفن… زهرة!”
لكن يبدو أن كذبي لم يكن مقنعًا، فقد أمسكت بي متلبسًا، وطلبت مني إعادة الحديقة إلى حالها كما كانت، بل وأخذت مني المعول وقالت: “الكنوز ما تنزرعش يا قرصان!”
وفي المساء، وأنا أجلس حزينًا على درج البيت، جاء ابن الجيران وقال لي:
— “سمعت إنك دفنت كنز؟”
هززت رأسي بفخر.
— “وينه؟”
نظرت إليه بابتسامة خبيثة وقلت:
— “ما أقدر أقول … الكنز ملك الذي يجده!”
ومن يومها، أصبحت الحديقة مليئة بالحفر الصغيرة التي لا أعرف من حفرها… لكني أعلم أن “كنزي” سيظل مدفونًا هناك، ينتظر من يستحقه.
ربما لم أعثر على كنز من الذهب، ولم أبحر بسفينة حقيقية، لكنني اكتشفت شيئًا أعظم: أن كل يوم يمكن أن يكون مغامرة، وكل فكرة مجنونة قد تصبح ذكرى لا تُنسى. أما كنزي الحقيقي… فهو تلك الضحكة التي تخرج كلما تذكرت جدتي وهي تصرخ من النافذة: “مين اللي عامل مقبرة؟!”
الفصل الثامن.. يوميات أول صيام:
حين كُنتُ صغيرًا، كنت أظن أن الصيام بطولة خارقة، وأنني إذا صمتُ يومًا كاملاً فسأترقى مباشرة إلى مصافّ الأبطال، وربما تُعلّق صورتي في مدخل البيت بجانب صورة والدي! هذه يومياتي الأولى مع الصيام… ومع السردين، بالطبع
استيقظتُ على صوت أمي تقول لي:
ـ “قوم يا صائم، السحور جاهز.”
وأنا، كأي فتى شقيٍّ يؤخذ على حين غفلة، فتحت عينًا واحدة وهمست:
ـ “بس خمس دقايق يا أمي… الصيام مش بيبدأ إلا بعدين!”
لكن الحقيقة أن أمي كانت مستعدة، وفي يدها عصا “الإقناع السريع”. قفزتُ من سريري كجندي يرد على نداء الوطن، وتوجهت إلى المطبخ، لأجد المائدة تبتسم لي… ثم عبست، فقد رأيت أمامي قطعة السردين!
لم تكن أي قطعة عادية، بل كانت ملحمية: لامعة، مالحة، وتحمل في عينيها تحديًّا لا يُقاوم.
نظرت إليها كأنها خصم في معركة، وقلت في نفسي: “لو انتصرتُ عليها الآن… فالصيام كله سيكون نزهة!”
وأكلت.
ثم ندمت.
ندمًا عميقًا.
ملح السردين ظل يرافقني طوال النهار وكأنه قرر الصيام معي!
المدرسة… والدراما الكبرى:
في طابور المدرسة، كنت أتمايل كأني شجرة نخيل في مهبّ ريح، اقترب صديقي سيف، وقال:
ـ “فايل، شكلك تعبان… أول مرة تصوم؟”
فقلت بفخر مزيف:
ـ “لا لا، عادي… بس السردين اللي فطرت عليه كان ثقيل شوية.”
ضحك سيف حتى كاد يقع، ثم أضاف بخبث:
ـ “أنا فطرت على تمر وجبنة… بس لو جاعيت قبل الظهر، بآكل سندويتش في الحمام وما حد يدري.”
نظرت إليه بدهشة الصائم المتديّن وقلت:
ـ “حرام عليك… الحمّام؟! حتى السردين يستحي يدخل معك هناك!”
وفي الحصة الرابعة، بدأ المدرّس يشرح عن دوران الأرض، وأنا أدور معه، لكن في رأسي فقط.
في عقلي، الأرض تدور حول صحن الشوربة، وأنا في المنتصف، ألوّح بمنديل أبيض: “افطروا يا جماعة… كفى دوران!”
من الولد الشقي إلى الصائم البطل
وصلت البيت وأنا منهار، كنت أحلم بالماء والتمر والحلوى… لكن أول ما رأيته كان طبقاً فيه… نعم، قطعة سردين جديدة!
صرخت:
ـ “أنقذوني من هذا القدر المالح!”
ضحكت أمي وقالت:
ـ “أنت صائم بطل، والسردين جزء من البطولة.”
ضحكتُ أنا الآخر، وقلت في سري:
إذا كانت البطولة تبدأ بقطعة سردين، فمتى أُتوَّج؟