مذكرات الولد الشقي .. الفصل الخامس والفصل السادس

فايل المطاعني
الفصل الخامس
شارع الموت
في زوايا الطفولة، حيث تختبئ الذكريات بين قصص الجدات وهمسات الأمهات، تلمع الحكايات الشعبية كنجوم في سماء ماضٍ لا يُنسى. هناك، في قلب عمان الساحرة، تروى الحكايات على نار المدافئ ودفء القلوب. ليست فقط للتسلية، بل حارسة للهوية، وساحرة تأخذنا إلى عوالم مليئة بالغموض والطرافة. في هذه المذكرات، سأصطحبكم إلى شارع “العق★”، حيث تبدأ أولى الحكايات… فاستعدوا للسفر معي إلى عالمٍ لا يُروى إلا بين ضحكات الأطفال ودهشة الكبار.
حينما تعيش في بلد قديم، فإنك حتمًا تسير على أرضٍ تتنفس بالحكايات، ويهمس تراثها في أذنك مع كل خطوة. وعُمان – هذا الوطن العريق – تمتلئ بلداته بحكايات لا تُعد، ولهجات متعددة، وأعراف تختلف من مدينة لأخرى رغم قرب المسافات بينها. هذا التنوّع، ليس مجرد تلوين ثقافي، بل كنزٌ حضاري نفتخر به.
نشأتُ على قصصٍ كانت تُروى لنا ونحن أطفال، بعضها يضحكنا، وبعضها الآخر… يجمّد الدم في عروقنا! ومنبع كل تلك القصص كان شارعاً غامضاً يُدعى: شارع العق★.
يقع هذا الشارع في المنطقة الداخلية من عمان، وكان يومًا ما الطريق الوحيد الذي يربط العاصمة مسقط بالشرقية والداخلية. وكان يُلقب بيننا نحن الصغار بـ”شارع الموت”، ليس لأنه مليء بالحوادث، بل لأنه مليء بالـ… رعب!
أشهر قصة كانت عن رجلٍ عجوز يظهر في منتصف الليل، يقف بجانب الطريق، يلوّح للسيارات. إن توقفتَ له وركب معك، لن يتكلم. لكن ما إن تنظر إلى قدميه… حتى تكتشف الكارثة: رجل حمار! يطلب منك التوقف في مكان مهجور، ثم يختفي وسط الظلام. هذه القصة كانت كفيلة بجعلنا ننام باكرًا دون جدال. أمي كانت تهددنا دائمًا: “إذا ما سكّتوا، بنادي الرجل الحمار!” — وطبعًا، نسكت فورًا. من يجرؤ على تحدّي “رجل برجل حمار”؟!
لكن أجمل القصص لم تكن من الشارع… بل من جدتي. رحمها الله، كانت حكواتية بالفطرة، لديها قدرة عجيبة على نسج الخيال، حتى أننا كنّا نصدق كل كلمة تقولها.
ومن أجمل حكاياتها: “حكاية النحلة”.
في مدينة بعيدة، كان هناك زوجان مسنّان، لا يملكان أطفالاً. كانت المرأة حزينة، تملأها الحسرة، حتى وجدت يومًا نحلة صغيرة عالقة في قطعة عسل، لا تقوى على الطيران. بعاطفة أمّ، أنقذتها، ونظّفت جناحيها، واعتنت بها حتى طارت من جديد.
مرت السنوات، وبدأت الشيخوخة تطرق أبوابهما. وذات صباح، استيقظت المرأة لتجد بيتها نظيفًا، والطعام معدًّا، ولكن لا أحد في الأفق. تكرر الأمر، حتى قال الزوج لزوجته: “دعينا نتظاهر بالنوم، ونكشف السر!”.
وفعلًا، وفي ظلام الفجر، سمعا حفيفًا خفيفًا. فتحا أعينهما، وإذا بهما يشاهدان فتاة شديدة الجمال، تطهو وتغني. تساءلا بدهشة: “من أنتِ؟ ولماذا تفعلين كل هذا؟”
ابتسمت الفتاة، وقالت: “أنا النحلة التي أنقذتموها. كنتُ أميرة، وسُحرت على يد عمتي – زوجة الملك – التي غارت مني، فحوّلتني إلى نحلة عاجزة. لكن حنانكما أنقذني.”
هنا صمتت جدتي، ونظرت إلينا بجدية، ثم قالت: “كل حكاية تحمل سرًا، وكل قلب طيب يُكافأ ولو بعد حين.”
كانت قصصها بسيطة، لكن فيها دفءًا لا يُنسى، ونكهة عمانية خالصة.
هكذا كانت أيامنا، وهكذا كنا نعيش بين الخوف والضحك، بين “الرجل الحمار” و”النحلة الأميرة”، وبين شارع الموت وحكايات الحياة.
وفي النهاية، تبقى الحكايات الشعبية مرآة لروح الوطن، ونبضًا من الماضي يعزف في قلب كل طفل كبر… لكنه لم يتوقف عن الحلم.
الفصل السادس .. المسرح
في زوايا الذاكرة، تختبئ لحظات صنعت منا ما نحن عليه، لحظات بريئة، مشاغبة، ومرحة، تشبهنا ونحن صغار…
“الولد الشقي” ليس مجرد لقب، بل حالة وجدانية مليئة بالحبّ، والدعابة، والدهشة الأولى من الحياة.
تبقى الذكريات من أجمل أقدارنا، رغم صعوبة الأمس، تبقى لها طعمٌ خاص حين نسترجعها اليوم… والآن، دعوني أروي لكم واحدة من حكاياتي مع الزمن الجميل.
منذ صغري وأنا “عفريت مسرح”!
أعشق المسرح، وأذكر أن جيلي كله ارتبط به عشقًا، فقد كان المسرح – في تلك الأيام – هو سيد الفنون بلا منازع، وكان بالفعل أبو الفنون.
كنت مأخوذًا برواد المسرح العربي الكبار: علي الكسار، نجيب الريحاني، يوسف وهبي، جورج أبيض، والمدبوليزم العريق.
كانوا أساطيرًا في عيوني، وكنت أتابعهم كمن يراقب السحر على خشبة تتنفس الفن.
أتحدث هنا عن أواخر الثمانينات، حين كانت خشبة المسرح هي حلم كل طفل لديه “شقاوة فنية”، وكان كبار النجوم يمرّون من بوابته قبل أن تضيء أسماؤهم في السينما والتلفزيون.
وكان النجم الكبير فؤاد المهندس – عمو فؤاد – نجم الشباك الأول بلا منازع.
أما عن تجربتي، فكانت أول تجربة مسرحية لي في الصف السادس الابتدائي، خلال دراستي في دولة الإمارات العربية المتحدة.
كان أستاذ الفنون – أيام ما كان فيه أستاذ للفنون فعلًا! – معجبًا بموهبتي في تقليد اللهجة المصرية بطلاقة. وذات يوم، ناداني قائلًا بحماس:
“عندك موهبة تمثيل رائعة، لو استمريت هتكون أحمد زكي الخليج!”
يا سلام!
هل تتخيلون وقع هذا الكلام على طفل يحب التمثيل؟
طرت من الفرح، وبدأت أحلم: شهرة، أضواء، مال، وحسناوات يصطففن من أجل توقيعي في المهرجانات العالمية…
بدأت أتصرف وكأني نجم! لدرجة أنني إن خاطبني أحد الصبية كنت أرد عليه:
“لو سمحت، انت بتتكلم مع أحمد زكي الخليج!”
طبعًا وأنا لسه ما قرأت الدور!
جاء الأستاذ بعد أيام، يحمل الدور، وقال لي بفخر:
“المسرحية اسمها (هجرة المسلمين إلى الحبشة)، وعايزك معانا.”
وبما أنني أسمر، قلت لنفسي: “أكيد هيديني دور ملك الحبشة! شكلي يساعد، ويوفروا مكياج، والدور متفصل علي تفصيل!”
تخيلوا فرحتي… حلم البطولة بدأ يتحقق.
لكن، لكن…
حين سلّمني الدور، قرأته بحماسة، ثم…
انفجر البالون!
لم أكن الملك… ولا حتى أحد الحاشية الكبار…
كنت الشخص اللي يحرّك ريشة النعام لتبريد وجه الملك!
يعني، باختصار، كنت جهاز التكييف الرسمي لملك الحبشة.
تخيلوا الصدمة!
الشهرة، الأضواء، السجادة الحمراء… كله تبخّر.
الحسناوات؟ طاروا.
حتى أحلامي الصغيرة صارت “هواء في هواء”!
ومع ذلك… لعبت الدور. رفعت ريشة النعام بكل وقار، وحاولت أقنع نفسي أني أؤدي “دور مهم”.
لكن الحقيقة؟ كنت مجرد “ديكور فاخر”!
ومع ذلك، لا أخفيكم… كان يوم العرض من أسعد أيامي.
قد لا تكون أول تجربة مسرحية لي قد وضعتني على عرش البطولة، لكنها وضعتني على خشبة الحلم.
في تلك اللحظة، أدركت أن الشهرة لا تأتي بريشة نعام، بل بقلوب تجرؤ على الحلم، حتى وإن بدأ الحلم من خلف الملك!
ولنا في الذكريات حياة…
وللولد الشقي فصول أخرى، فيها ضحك وبكاء… عبث وحكمة… وشقاوة بطعم الحياة.