الأفعوانية الكاذبة

د. طالب بن خليفة الهطالي
في زخم الحياة المعاصرة، حيث تتسارع الوتيرة وتتشابك اللحظات بين فرح عابر وانكسار مفاجئ، تتكشّف لنا حقيقة مقلقة عن كثير من التجارب التي نظنها قفزات نوعية في مسيرة نضجنا، ليست إلا أوهاما متنكرة في هيئة صعود. إنها ما يمكن أن نسميه “الأفعوانية الكاذبة” سلسلة من التجارب المتقلبة التي تمنحنا وهم الحركة، دون أن تفتح لنا أبواب التحول الحقيقي.
تتخذ هذه المجازية جذورها من لعبة الملاهي الشهيرة، تلك التي تعرف بقطار الموت والتي تأسر الركاب بانحداراتها وصعودها لكنها في نهاية المطاف تعود دوما إلى ذات النقطة، هكذا هي بعض تجارب الحياة تمنحنا مشاعر الانبهار والخوف والدهشة، لكنها لا تحملنا إلا في دائرة مغلقة، تخدع وعينا بأنها مغامرة، بينما هي في جوهرها دورانٌ حول الفراغ. هذه الأفعوانية النفسية تسكن تفاصيل الحب والطموح وحتى الألم، إننا نخوض تجارب تبدو حقيقية في ظاهرها لكنها تفتقر إلى الجذور، نعيشها بشغف ثم نصحو على سؤال موجع، هل ما مررنا به كان وعيا أم انخداعا؟
خذ الحب مثالا: كم من علاقة بدت للوهلة الأولى كصعود روحاني، لكنها سرعان ما تحولت إلى هبوط داخلي مؤلم، لا لأن الطرف الآخر تبدل، بل لأننا ألبسنا التجربة ما لا تحتمل من التوقعات؟ وكم من طموح خيّل إلينا أنه خلاصنا، فإذا هو أفعوانية رغبة غير مؤصلة بالعمل أو الواقع؟ الخطورة الكبرى تكمن حين تتحول هذه الأفعوانية إلى أسلوب عيش نُدمن الحركة، ونخاف السكون ونطلب الإثارة لا لأنها دليل على الحياة، بل لأنها تغطّي على خوائنا الداخلي، نفرّ من الهدوء لأنه يجبرنا على النظر إلى ذواتنا دون مؤثرات.
لكن النضج لا يولد من الحركة السريعة، بل من السير المتزن، فالحب الصادق لا يحتاج إلى ضجيج، والطموح الأصيل لا يقاس بالاندفاع، بل بعمق الجذور وصدق المسار. أما الحياة فإنها تمنحنا معناها حين نرضى بالأرض الثابتة تحت أقدامنا لا بالصعود الزائف في الهواء. ففي عُرف الحياة، لا يعد الألم بالضرورة عدوا. بل ثمة نوع من الألم يشبه نافذة تفتح فجأة على الذات، يكشف هشاشتنا ويدفعنا لإعادة ترتيب ذواتنا من الداخل، إنه ما يمكن أن نسمّيه بالألم الجميل، ذاك الذي لا يدمرنا بل ينقينا.
إن الراحة المديدة قد تخدرنا وتجعلنا نألف السطح ونخاف الغوص، أما الألم فإنه يقتحمنا بلا استئذان ويوقظ أسئلتنا الكبرى من أنا بعد الخيبة؟ ماذا تبقى مني بعد الفقد؟ وما معنى هذا الانكسار؟ هذا النوع من الألم لا يُشعل المرارة، بل يورق الحكمة، ويعلمنا الصبر لا التبلّد، والرضا لا الاستسلام، ويجعلنا ندرك أن الإنسان لا يقاس بلحظات الراحة بل بقدرته على الوقوف وسط العاصفة بعين دامعة وقلب لا يزال يحب.
إن بعض الجراح لا تهدمنا بل تعيد تشكيلنا وتسهم في تفتيح نوافذ أرواحنا التي لم نكن نعلم بوجودها، وتُسقط عنا أقنعة كنا نظنها وجوها. كم من محنة كانت بذرة تحول؟ وكم من خسارة كانت في حقيقتها بداية ميلاد؟ الحكمة الحقيقية لا تولد في لحظة انتشاء، بل في لحظة صمت بعد العاصفة، فمن رحم الألم تولد أعمق المعاني، ومن قلب الخسارة تتبرعم أنقى القيم. هكذا تكون الجراح مفاتيح لا قيودا، فمن بين الابتلاءات التي تطرق أبواب أرواحنا دون استئذان، يظل الفقد الأكثر قدرة على كشف المستور، والأشد فاعلية في تعرية الإنسان من أوهامه، فالفقد لا يسرق فقط ما نحب بل يعيدنا إلى ذواتنا التي كنا نغفل عنها ويضعنا في مواجهة مرآة لا تجامل ولا تزيّن.
إنه يخلخل الثوابت، ويجعلنا نعيد ترتيب أولوياتنا وفق سلّم جديد لا يعرف الزيف ولا المجاملة، فما كنا نراه عظيما نكتشف ضآلته، وما اعتبرناه هامشيا يتضح أنه كان جوهرا. وقيل: في عمق هذا الألم، نتعلم أن الاكتمال وهمٌ زائل، وأن النقص ليس عيبا بل جزء من نسيج الوجود، عندها نصبح أكثر تسامحا مع ذواتنا، أقل تطلّبا من الحياة، وأقرب إلى السلام الداخلي. الفقد كذلك يُسكت ضجيج الخارج، لنسمع أخيرا صوت الداخل فننصت لأسئلتنا الكبرى ونبدأ رحلة بحث صادقة عن المعنى الحقيقي وهو أيضا درس في التحرر من التعلق، من التملك، من ظن الخلود، إنه يعلمنا أن نُحب بوعي لا بقلق، وأن نرعى الروابط دون أن نُسجن فيها.
وأخيرا، فإن الفقد يُمهد القلب لاستقبال الله في لحظة الانكسار التي تتقشع فيها كل الأوهام، فلا يبقى إلا يقين واحد أن الله وحده هو السند، وأن الفراغ الذي خلّفه الفقد لا يملؤه إلا القرب منه. هكذا يتحول الفقد من مصيبة إلى معلم، ومن غياب إلى حضور جديد للوعي. ففي زمن يقدس السرعة والسطحية، نحتاج إلى استعادة قيمة الثبات، وفضيلة الوعيـ فعند سماعنا أو قرائتنا “الأفعوانية الكاذبة” قد تُضحكنا لحظة، لكنها لا تبنينا، أما الحقيقة فهادئة وصامتة، لكنها وحدها تصنع فينا إنسانا ناضجا.
فلنتعلم أن نمشي بخطى متزنة ولو ببطء وأن نحب بهدوء ونسعى بعقل ونؤمن أن بعض الآلام مفاتيح وأن بعض الفقد هدايا متنكرة، فما كل صعود بركة، ولا كل ألم لعنة، بل إن بعض الألم حين يُحتضن بوعي يعيد لنا أنفسنا التي أضعناها في زحام المتعة.