الحنين: وأبعاده الوجودية

د. طالب بن خليفة الهطالي
الحنين هو أحد أكثر المشاعر الإنسانية تعقيدا وعمقا، إذ يتجلى في وجدان الإنسان كمزيج من التوق والشوق إلى ماض مضى، ورغبة في استعادة لحظات كانت يومًا ما جزءًا من وجوده. لكنه ليس مجرد نزوع نحو الذكرى، بل هو مفهوم فلسفي يرتبط بالهوية والزمن والكينونة، ويتأرجح بين كونه تجربة وجدانية ذات طابع شخصي وظاهرة اجتماعية تعكس تحولات المجتمعات والثقافات. ويمكن أن نصف الحنين أنه حالة وجدانية تربط الإنسان بجذوره، إذ يستمد من الماضي إحساسه بالانتماء والطمأنينة، في السياق الفلسفي ويعتبر الحنين ظاهرة متجذرة في طبيعة الزمن، فكما قال الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر: “الوجود الإنساني محكوم بالزمنية”، أي أن الإنسان يعيش حاضره في ضوء ماضيه ويرى مستقبله من خلال التجارب التي مر بها.
إن الحنين ليس مجرد استدعاء للذكريات، بل هو فعل تأويلي للزمن، حيث يحاول الإنسان إعادة بناء ماضيه وفقا لرؤيته الحاضرة، وهذا ينسجم مع مقولة أرسطو الذي رأى أن “الإنسان كائن يستعيد تجربته ليمنحها معنى” مما يجعل الحنين عملية عقلية ووجدانية معقدة تتجاوز مجرد الشعور العابر. والناظر في كتاب الله يجد أن الحنين يمثل مفهوما روحيا، حيث يتجلى في توق الإنسان إلى موطنه الأول، وهو الجنة، بعد أن نفي منها إلى الأرض لقوله تعالى:
“قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” ( البقرة: 38) وهنا يتضح أن الحنين ليس مجرد شعور بشري، بل هو جزء من الفطرة التي زرعها الله سبحانه وتعالى في الإنسان ليظل مشدودا إلى أصله الإلهي، ونجد في حديث النبي ﷺ تعبيرا عن الحنين في سياق الحب والوفاء، إذ ورد في الحديث المروي عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع النبي ﷺ يقول وهو واقف بالحَزْوَرَة في سوق مكة: “والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت” (رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه) في هذا الحديث يتجلى الحنين كمشاعر طبيعية مترسخة في أعماق الإنسان تعبر عن التعلق بالأماكن التي شهدت ذكرياته وهويته.
وإذا ما تطرقنا إلى الأدب العربي نجد أن الحنين لم يكن مجرد تجربة شخصية بل كان دائما موضوعا أساسيا، إذ تجسد في قصائد الشعراء الذين عبروا عن شوقهم للأوطان والأحباب فقد قال أبو تمام:
نَقِّلْ فُؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى :: ما الحُبُّ إلا للحبيبِ الأوَّلِ
كـــــــــــــــــــــم منــــــــزلٍ في الأرض يألَفُهُ الفتى :: وحـــــــــــــــنينُهُ أبَدًا لأولِ منزلِ
ويؤكد هذا المعنى المتنبي حين قال:
وإذا تَفَقَّدَتِ البُدُورُ مَنَازِلًا :: فَثِيَابُهُنَّ مِنَ التُّرَابِ جُدُدُ
فهذان البيتان يجسدان كيف أن الإنسان يظل مرتبطا بأماكن نشأته الأولى حتى لو تغيرت الظروف والمقامات، فالأصل يبقى أصلا لا يمكن أن يغيره الزمن أو المؤثرات أو المتغيرات الحياتية أو حذفه من ذاكرة الزمن. ويمكن القول إن الحنين شعور متناقض، فهو من جهة يمنح الإنسان دفئا نفسيا حين يسترجع لحظاته الجميلة، لكنه من جهة أخرى يبعث في النفس نوعا من الألم الناجم عن إدراك استحالة العودة إلى الماضي، وفي هذا السياق يرى الفيلسوف جان جاك روسو أن: “الحنين هو ألمٌ لذيذ، نتلذذ به رغم مرارته” إذ يمنح الإنسان فرصة لإعادة تشكيل ماضيه وفقا لرؤيته الحالية، وعلى الرغم من ارتباط الحنين بالماضي، إلا أنه قد يكون دافعا للإبداع والتغيير، حيث يدفع الإنسان إلى استعادة قيم أو ممارسات إيجابية فقدها مع الزمن.
قال الشاعر محمود درويش: “الحنين هو مسامرة الغائب للغائب، وتمنٍّ لاكتشاف الحاضر على يد الماضي ”
فالحنين ليس مجرد حالة نوستالجية، بل قد يكون حافزًا للبحث عن معانٍ جديدة في الحياة، وما يمكن أن نخلص إليه هو أن الحنين ليس ضعفا، بل هو تجلّ إنساني عميق يعبر عن الارتباط بالهوية والزمن، فهو دعوة للتأمل في الماضي دون أن يصبح سجنا يعيق الإنسان عن عيش حاضره أو بناء مستقبله فكما أن الحنين هو تذكيرٌ بجمال ما كان، فإنه في الوقت ذاته دافع لصناعة ما سيكون.