الأثنين: 6 يناير 2025م - العدد رقم 2375
Adsense
مقالات صحفية

فارسٌ صَنَعَ الفَرْقَ بشَغَفِه

د. محمد بن أحمد بن خالد البرواني
mhmdtrain@gmail.com
معهد محمد للاستشارات والتدريب

في رِحابِ ذاكرةِ الزَّمنِ، نَعُودُ إلى السَّبعينيَّاتِ، إلى تِلْكَ الأيَّامِ الَّتي جَلَسْنَا فيها على مَقاعِدِ الدِّراسةِ نَسْتَمِعُ بشَغَفٍ إلى أُستاذِنا العَزِيزِ، الَّذي عَلَّمَنا التَّاريخَ ليسَ فقط كحَقَائِقَ وأحداثٍ، بَل كحِكَايَةٍ إنسانِيَّةٍ تَرْبِطُنا بمَاضِينا وتُلْهِمُنا لِبِنَاءِ مُسْتَقْبَلِنَا.

يَوْمٌ ليسَ كَكُلِّ الأيَّامِ، رسالةٌ تُنْبِئُ بحُزْنٍ عَميقٍ على فَقْدٍ، وأيِّ فَقْدٍ! إنَّهُ فَقْدٌ يَذْكُرُهُ كُلُّ طالِبٍ مِن السَّبعينيَّاتِ في مَدْرَسَةِ المُهَنَّا بن جَيْفَرَ بالمُضَيْبِي، والثَّمانينيَّاتِ في مَدْرَسَةِ المُتَنَبِّي بإِبْرَاء. مَدْرَسَتَانِ غَرَسَ فيهما أُستاذُنا الجَلِيلُ والكَبِيرُ مُحَمَّد سَعِيد شَتْيُوِي بُذُورَ العِلْمِ والحِكْمَةِ، وما زَالَتْ تِلْكَ البُذُورُ يَانِعَةً إلى يَوْمِنَا هذا. لَقَدْ قَدَّمَ فيهما عُصَارَةَ فِكْرِهِ ومَنْهَلَ عِلْمِهِ بأسلُوبِهِ الشَّائِقِ الرَّائِقِ.

كانَ لا يَفْتُرُ ثَانِيَةً واحِدَةً في تَقْدِيمِ المَعْرِفَةِ الَّتي كانَ كُلُّ طالِبٍ يَتَلَذَّذُ بِسَمَاعِها. بشَخْصِيَّتِهِ المُهَابَةِ، وصَوْتِهِ العَظِيمِ، وتَفَاعُلِهِ الرَّائِعِ، وحَنَانِهِ وعَطْفِهِ الكَبِيرِ، تَرَكَ الأُستاذُ المَغْفُورُ له مُحَمَّدٌ سَعِيدٌ شَتْيُوِي، مُعَلِّمُ التَّاريخِ والدِّرَاسَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، أثَرًا خَالِدًا. وافتهُ المَنِيَّةُ في عُمَانَ منذُ أُسْبُوعٍ، ولكِنْ تَرْتَسِمُ في وَجْهِهِ وفي سُلُوكِهِ صِفَاتُ المُعَلِّمِ القَائِدِ النَّاجِحِ. فَمَا أَجَلَّهَا مِن صِفَاتٍ، ومَا أَرْوَعَهَا مِن هِمَّةٍ لا تَعْرِفُ الفُتُورَ، ومَا أَشَدَّ شَغَفَهُ برِسالَتِهِ التَّعْلِيمِيَّةِ.

رَغْمَ مَشَاعِرِ الإنسَانِ المُتَقَلِّبَةِ، كانَ أُستاذُنا يَحْتَفِظُ بِرَتْمِهِ المُعْتَادِ في التَّعامُلِ مع طُلَّابِهِ، يَحْمِلُ دَائِمًا مَشَاعِرَهُ الإيجَابِيَّةَ المُسْتَمِرَّةَ، الَّتي كانتْ تَجْعَلُ كُلَّ مَن في الصَّفِّ مُسْتَعِدًّا ومُنْتَبِهًا بِجَمِيعِ حَوَاسِّهِ لاسْتِقْبَالِ المَعْرِفَةِ منه.

كانتْ ذِكْرَاهُ وستَبْقَى حَاضِرَةً في قُلُوبِنَا. لَقَدْ كانَ نَمُوذَجًا للمُعَلِّمِ المُثَقَّفِ والمُرَبِّي المُخْلِصِ. لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ مُدَرِّسٍ للتَّاريخِ، بَلْ صَانِعًا للأَثَرِ؛ يَرْوِي الأَحْدَاثَ وكَأَنَّهَا مَشَاهِدُ حَيَّةٌ تُشْعِلُ في قُلُوبِنَا حُبَّ التَّعَلُّمِ وحُبَّ الوَطَنِ. كُنَّا نَجْلِسُ مُتَسَمِّرِينَ، نُتَابِعُ حَدِيثَهُ الَّذي كانَ دَائِمًا مَزِيجًا مِن الحِكْمَةِ والعَاطِفَةِ.

ولا تَزَالُ ذِكْرَاهُ حَاضِرَةً في قُلُوبِنَا. نَذْكُرُهُ بِكُلِّ فَخْرٍ واعْتِزَازٍ، ونَسْتَرْجِعُ مَوَاقِفَهُ الَّتي عَلَّمَتْنَا كَيْفَ نَكُونُ قَادَةً في حَيَاتِنَا وكَيْفَ نَصْنَعُ فَرْقًا في حَيَاةِ الآخَرِينَ.

رَحِمَ اللهُ أُستاذَنَا الكَرِيمَ مُحَمَّدَ سَعِيدٍ شَتْيُوِي، الَّذي أَلْهَمَنَا أنْ نَحْمِلَ شُعْلَةَ العِلْمِ والإنْسَانِيَّةِ الَّتي أَشْعَلَهَا في نُفُوسِنَا، ونَعْمَلَ على نَقْلِهَا للأَجْيَالِ. أَسْكَنَهُ اللهُ الجِنَانَ معَ الأَنْبِيَاءِ والشُّهَدَاءِ والصِّدِّيقِينَ، وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights