2024
Adsense
مقالات صحفية

كل يوم رأس سنة في نَظر فيلسوف

طه جمعه الشرنوبي

في مقال بعنوان “لماذا أكره يوم رأس السنة؟” نُشر بالإنجليزية على مجلة Jacobin في ٢٠١٦/١/١، كتب المفكر والفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي

«كل صباح، حين أصحو مجددًا تحت بساط السماء، أشعر أن اليوم هو رأس السنة بالنسبة لي.

أريد أن يكون كل يوم هو يوم رأس السنة بالنسبة لي. أريد أن أتصالح مع نفسي وأجددها كل يوم، دون أن أفرد يومًا محددًا للراحة. أختار استراحاتي بنفسي حين يُنهكني صخب الحياة وأحتاج للغوص في الحيوانية لأستمد منها حماسة جديدة.

لا أريد تأدية واجبات معنوية. أريد أن تكون كل ساعة من حياتي جديدة، رغم اتصالها بسابقاتها. لا أريد يومًا للاحتفال له أناشيد جمعية إجبارية، أقضيه مع كل الغرباء الذين لا آبه بأمرهم. أن نكون مضطرين للاحتفال لمجرد أن أجداد أجدادنا وأجدادهم قد احتفلوا في هذا اليوم، هو أمر مثير للغثيان.»

هذا ما عبر عنه أنطونيو غرامشي، الفيلسوف الإيطالي، في مقاله الشهير عن كراهيته ليوم رأس السنة. إنها ليست كراهية لليوم بذاته؛ بل لما يمثله من رمزية جبرية تُفرض علينا، تُقيدنا في طقوس ومعانٍ جاهزة؛ فنفقد من خلالها حريتنا في الشعور والتفكير.

يرى غرامشي أن الحياة ليست بحاجة إلى نقاط فاصلة كي تُعاد صياغتها. التجديد لا يحتاج إلى موعد مُحدد أو طقوس اجتماعية. التجديد فعل شخصي ذاتي، ينشأ من قلب الإنسان كل يوم، بل كل ساعة. يقول غرامشي إننا لا نحتاج إلى يوم مُعين للراحة، ولا إلى طقوس مُوحدة تُفرض علينا. الراحة يجب أن تكون اختيارًا فرديًا، يستجيب لحاجتنا العميقة في اللحظة التي نشعر فيها بالإرهاق.

هذه الفكرة تجعلنا نتساءل: لماذا نسمح لأنفسنا أن تُحبس في قوالب الزمن المعلبة؟ لماذا نتبع تقويمًا صنعه الآخرون، ونحتفل بيوم رأس السنة فقط لأن أجدادنا قرروا ذلك؟ أليس من الأجدى أن يكون لكل فرد تقويمه الخاص؟ تقويم ينطلق من إحساسه الشخصي بالحياة والوقت؟
يتحول يوم رأس السنة في كثير من الأحيان إلى احتفال جماعي فارغ. نخرج إلى الشوارع أو نصطف أمام شاشات التلفاز لنراقب العد التنازلي، نتبادل التهاني والقبلات، ونشارك في أغانٍ وألعاب نكررها كل عام. لكن في العمق، ما الذي نحتفل به حقًا؟

غالبًا ما يكون الاحتفال مجرد قناع يخفي رتابة حياتنا. نحن نشارك في هذا الطقس الجمعي ليس لأننا نشعر حقًا بالفرح أو الحماس، بل لأن المجتمع يتوقع منا ذلك. نرتدي أجمل ما لدينا، نلتقط الصور، وننشرها على مواقع التواصل الاجتماعي لنعطي الآخرين انطباعًا بأننا نعيش لحظة مميزة. لكن في الحقيقة، قد يكون هناك فراغ داخلي عميق، فراغ لا تُملؤه الألعاب النارية ولا أغاني الحفلات.

فكرة الزمن نفسها هي اختراع إنساني. نحن الذين اخترعنا الساعات والتقويمات لنُرتب حياتنا ونُمنح إحساسًا بالسيطرة على الوقت. لكن هذه الأدوات التي اخترعناها أصبحت، بطريقة ما، تُسيطر علينا. أصبحنا عبيدًا للتقويمات، نعيش حياتنا وفقًا لمواعيد وطقوس تُفرض علينا، حتى عندما لا يكون لها معنى حقيقي.

يقول غرامشي إن التجديد يجب أن يكون فعلًا مستمرًا، غير مرتبط بأي تاريخ أو تقويم. التجديد ليس لحظة تنبثق من تقويم محدد، بل هو رحلة يومية نعيشها عبر كل قرار صغير نتخذه. إنه يعني أن نُصالح أنفسنا باستمرار، أن نعيد تقييم أفكارنا، أن نتعلم من أخطائنا، وأن نبدأ من جديد كلما شعرنا بالحاجة إلى ذلك.

الاحتفال بيوم رأس السنة هو في جوهره، شكل من أشكال العبودية الثقافية. نحن نحتفل ليس لأننا نريد ذلك؛ بل لأن المجتمع يتوقع منا ذلك. نحن نُشارك في طقوس جمعية تُجبرنا على التخلي عن حريتنا الشخصية. لكن غرامشي يرفض هذه العبودية. إنه يُطالب بحرية مطلقة، حرية تُتيح له اختيار لحظات الاحتفال والتجديد، وفقًا لحاجته الشخصية وليس وفقًا لتوقعات الآخرين.
أن تكون حرًا يعني أن تختار كيف تعيش حياتك، أن تُحدد بنفسك معنى الزمن ومعنى التجديد. ربما يكون هذا الخيار صعبًا، لأنه يتطلب مواجهة المجتمع وتحدي تقاليده. لكنه أيضًا الخيار الوحيد الذي يُمكن أن يمنحنا حياة أصيلة، حياة نعيشها بصدق مع أنفسنا.

كيف نعيش كل يوم كرأس سنة؟

ربما لا يعني هذا رفض الاحتفالات بشكل كامل، بل إعادة تعريفها. يمكننا أن نحتفل، لكن ليس لأن الآخرين يتوقعون منا ذلك، بل لأننا نشعر بالرغبة الحقيقية في الاحتفال. يمكننا أن نُخصص لحظات للتأمل والتجديد، ليس في نهاية العام فقط، بل في كل يوم وفي كل ساعة.
لكي نعيش كل يوم كرأس سنة، يجب أن نبدأ بتغيير طريقة تفكيرنا في الزمن. يجب أن نتوقف عن انتظار “لحظات خاصة” لنشعر بالسعادة أو الحماسة. السعادة يجب أن تكون جزءًا من حياتنا اليومية، لا لحظة مؤجلة.

ما يقدمه غرامشي ليس دعوة للتمرد على يوم رأس السنة بحد ذاته، بل دعوة للتحرر من كل القيود التي تُقيد حياتنا. إنه يُطالبنا بأن نعيش كل يوم كما لو كان فرصة جديدة، أن نتحرر من الماضي والمستقبل، ونعيش في الحاضر بكل طاقتنا.
أن نعيش كل يوم كرأس سنة يعني أن نُعيد اكتشاف أنفسنا باستمرار، أن نبحث عن المعنى في اللحظات الصغيرة، أن نحتفل بالحياة بطريقتنا الخاصة، وباختيارنا الحر.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights