قصة قصيرة الجريمة (الجزء السادس)
خلفان بن علي بن خميس الرواحي
قبل وفاته، كان أحمد على اتصال دائم بالملازم قيس، فقد كان ينقل له كل الملاحظات التي كان يراها في القرية ولها علاقة بالقضية، ومن الملاحظات التي نقلها تردد المدعو سعود على القرية في الفترة التي حدثت بها حادثة السيارة، وكذلك موضوع التواصل بين سعود وغسان وغيرها من الأمور. كل ذلك جعل الملازم قيس يقلّب الموضوع في ذهنه أكثر من مرة لعله يصل إلى خيط يربطها مع بعضها. طَرقات على الباب بعدها يفتح الباب ويستأذن الشرطي في الدخول، يؤدي التحية: سيدي، معنا رجل يودّ الدخول إليك. الملازم قيس: بخصوص أي شيء، يمكن أن تساعدوه أنتم؟ الشرطي: يقول لديه شيء يتعلق بالقضية، أقصد قضية السيارة. الملازم: في عجلة، طيب أدخله. يخرج الشرطي ثم يعود مرة أخرى ومعه الرجل، يظل الرجل واقفاً حتى يأذن له الملازم قيس بالجلوس، من أسفل الأوراق يرمق الملازم الرجل وهو واقف أمامه، ملامح لم يراها من قبل، صمت لفترة ثم رفع رأسه وقال له: تفضل بالجلوس. يجلس الرجل أمام الملازم ويحدق فيه، ينتظر أن يفتح له المجال للحديث وقد لاحظ الملازم تلك الرغبة، ولكنه آثر الانتظار. الرجل لم يتمالك نفسه، وقف وأسند نفسه بيديه على طاولة الملازم، وبصوت خفيف قال: لقد رأيت شخصاً يدفع أحمد ليسقطه في الحفرة. هنا ينهض الملازم: ماذا قلت؟ كرر كلامك مرة أخرى وبصورة أفضل. الرجل: أحمد لم يسقط بنفسه في الحفرة، وإنما هناك من دفعه. الملازم: هذا كلام خطير! هل أنت متأكد من كلامك؟ الرجل: سيدي أن من اللحظة التي عرفت فيها بموت أحمد لم أستطع النوم، ذلك المشهد كان يقلقني في نومي وفي يقظتي. الملازم: ولماذا لم تأت من أول الأمر؟ لقد تأخرت كثيراً. الرجل: لقد كنت خائفاً وظننت أن الأمر غير مهم. الملازم: الأمر مهم جداً لنا، وموت أحمد سُجّل بأنه موت طبيعي نتيجة نزيف داخلي إثر سقوطه في الحفرة، أما الآن فإن موته نتيجة جريمة قتل مدبرة، احكي لي القصة بالتفصيل. الرجل: كنت عاداً إلى بيتي، ومن بعيد شاهدت رجلاً قد غطّى وجهه بثوب ولا يظهر منه إلا عينيه فقط، دخل إلى نفسي الشكّ، ولكن قلت ربما يكون لصاً، ثم استبعدتُ ذلك، فاللص لا يسرق في وضح النهار. الملازم: أكمل، وبعد ذلك ماذا حصل؟ الرجل: سرت خلفه أراقبه من بعيد دون أن ينتبه لي وأنا خلفه، رأيت رجلاً آخَر أمامه، طبعاً لم أعرفه في البداية وكان الرجل الملثم يقترب منه، وذلك الرجل الآخر لم ينتبه له، يبدو أنه كان مشغول البال بأمر ما، فقد كان يحدّث نفسه. الملازم: وكيف عرفت أنه كان يحدث نفسه؟ الرجل: تحريكه ليديه وهزه لرأسه كان واضحاً، عموماً اقترب الرجل منه عندما وجده قريباً من الحفرة ودفعه فيها، وبعدها أسرع هارباُ. الملازم: لماذا لم تلحق به؟ الرجل: عندما وصلت إلى الحفرة ونظرت فيها شاهدت أحمد، ولكنني خفت فتراجعت وعدت من حيث أتيت. الملازم: معقول، أحد أبناء قريتك تم الاعتداء عليه وأنت بهذه السهولة تتركه في مكانه. الرجل: سيدي أنا رجل في حالي حتى أنني لا أختلط كثيراً بأهل القرية، من عملي لبيتي والعكس، وربما أغلب أهل القرية لا يعرفون عني شيء. الملازم: أنت لم تتعرف على الشخص الملثم؟ الرجل: لا، سيدي، ولكن وهو يركض من المكان سقطت منه هذه الورقة، يخرجها من جيبه ويناولها الملازم، لم أفتحها. يتناول الملازم قيس الورقة من الرجل ثم يفتحها ويجد بها رقماً، ربما يكون رقم هاتف. الملازم قيس: يقترب من الرجل، شكراً لك وما قمت به في البداية كان خطأً، ولكنك أصلحته الآن بالقدوم إلينا وتأكد أن المعلومات التي قدمتها لنا ستكون سرية، وطبعا عليك أن تحتفظ أنت بهذه المعلومات ولا تنقلها لأحد آخَر. الرجل: أمرك سيدي، كما قلت لك أنا لا أخالط أحداً في القرية.
خرج الرجل من مكتب الملازم قيس، وبدأت الأمور تزيد تعقيداً في موضوع القضية، فقد ظهرت جريمة قتل أخرى وأغلب الأمر أنها مرتبطة بالجريمة الأولى، ولكن من الذي يحمل العداوة لأحمد حتى يقتله فهو شخص محبوب في القرية وليس له أعداء، هنا قرر أن يعود إلى ملف قضية أحمد في سجلات مركز الشرطة. طلب أحد الأفراد أن يحضر له الملف ومعه الأفراد الذين قاموا بالتحقيق مع الأشخاص الذين كانوا مع أحمد في المستشفى. وبانتظار أن يحضروا كان ينظر إلى تلك الورقة التي سقطت من ذلك الرجل الملثم وهذا الرقم الذي عليها لمن سيكون، وأكيد صاحبه له علاقة قوية بالرجل. يأخذ الملازم قيس الورقة ويسلمها لقسم التحقيقات ويطلب منهم التواصل مع شركات الهواتف للتعرف على صاحب الرقم وإبلاغه بما يصلون إليه، ويتجه هو إلى ضابط المركز حتى يطلعه على المستجدات في القضية.
ساءت العلاقة بين عبير وزوجها غسان كثيراً حتى أنها ذهبت إلى بيت أهلها وعادة هي لا تذهب إلا في المناسبات وزوجها معها، هذه المرة كانت وحدها حتى أنهم استغربوا الأمر، كانت ترغب من هذه الزيارة تغيير المكان والحديث مع أحد لكي تخرج ما بها وتفرج عن نفسها، ولكنها لم تجد تلك الأذن التي تسمعها، وإنما وجدت عيوناً ترمقها بشدة تحمل عبارات العتاب واللوم، فهي من رضيت بغسان زوجاً، وتتحمل نتيجة اختيارها، على مرور السنوات وتحسن العلاقة مع غسان ولكن ما زال في القلوب شيء، تقرر العودة إلى بيتها، فما تعانيه هناك أهون بكثير مما عانته هنا في بيت أهلها، وهي خارجة تناديها أختها (شذى): عبير إلى أين؟ عبير: سوف أعود إلى البيت، وإلى زوجي أكيد سوف يعود ويحتاج لي. شذى: طيب، قبل أن تذهبي تعالي معي إلى الغرفة أريدك في موضوع. هذا الأمر أفرح عبير، أخيراً ستجد من تتحدث إليه، تذهب مع أختها وتجلس على طرف السرير وتنتظر من شذى فتح باب للحديث. شذى: لا أعرف من أين أبدأ الحديث معك. عبير: المهم أن تبدئي الحديث، تكلمي بما في خاطرك. شذى: الحقيقة أريد أكلمك عن غسان. تقف عبير وبصوت حادّ: ما به غسان تكلمي؟ شذى: في هدوء، ليس هناك أمر محدد عبير فقط ملاحظة. عبير: وما هي تلك الملاحظة؟ شذى: غسان ليس كما كان، هناك أمور غريبة دخلت في حياته، طبعاً أنتِ أدرى وأعرف بذلك مني. عبير: كلامك صحيح، لا أعرف ماذا حدث له، كانت حياتنا جميلة كلها سعادة وفرح، حتى موت ابنتنا (جنان) لم يؤثر كثيراً فينا، مرحلة وتجاوزناها، رضينا بقضاء الله وقدره، ولكن في الأيام الأخيرة غسان تغير. شذى: ألم تصلي إلى السبب؟ تهز عبير رأسها نافية ذلك ثم تقول: الغريب أن غسان ما كان يخفي عني شيئاً، ولكن الآن لا يتكلم معي، حتى عندما أسأله لا يرد عليّ، أخاف أن يكون قد تورط في شيء ما وأنا أجهله. شذى: لا تكبري الموضوع، بإذن الله تعود الأمور إلى مجراها السابق وأحسن. عبير: ما يزيد شكوكي تلك الاتصالات التي تصل إليّ تسأل عنه وعن مكانه ماذا فعل؟ أين ذهب؟ من أشخاص لا أعرفهم، ثم لماذا يتصلون بي أنا وليس هو. شذى: هذا أمر غريب، وهل تحدثتِ معه في ذلك؟ عبير: نعم، أكثر من مرة، ولكنه ينفي هذا الموضوع، ومن كثرة المضايقات قمت بتغيير الرقم. شذى: لا بأس يا عبير، أحياناً يمرّ الإنسان بظروف لا يعلمها إلا الله، ونأمل أن يكون خيراً، اذهبي إلى بيتك وكوني قريبة من زوجك فربما يحتاج إليك. عبير: بإذن الله تعالى، شكراً لكِ، حديثك معي خفف عني كثيراً. شذى مبتسمة: لا تنسي أننا أختان من أم وأب، هي الظروف فقط ابعدتنا عن بعضنا البعض. تنهض عبير وتودع أختها بحضن عميق لم تتعودا عليه سابقاً، وترافقها إلى الباب مودعة لها.
عادت عبير إلى بيتها وزوجها وهي مؤمنة أن أهلها تنازلوا عن موقفهم من زواجها من غسان، لكن ما زال شيء عالق في أذهانهم، وداخلها تريد أن تثبت لهم عكس ظنونهم فيه، فتحت الباب ودخلت وإذا بغسان ينتظرها على باب الصالة، وهذا الأمر ليس من عادته، فأسرعت إليه وسلمت وألقت التحية بكل حب متناسية ما كان في الأيام السابقة، نهض غسان وقال لها: عبير تعالي أريدك في موضوع. نظرت إليه بدهشة واستغراب وفي داخلها ماذا سيكون هذا الموضوع، مشت ببطء شديد وتردد وخوف، فنبرة صوته كانت مختلفة ليست كالسابق. جلس غسان بجوار زوجته ورفع يده ووضعها على رأسها وقال لها: أولاً أطلب منك المسامحة عن تصرفي معك في الأيام السابقة. ابتسمت له: أنت زوجي وحبيبي وأنا لا أحمل لك إلا الحب في قلبي ومهما حدث فنظل لبعضنا ونعود كما كنا وأفضل، وأحياناً المشاكل الزوجية هي ملح الحياة. ترفع يده من على رأسها وتقبّل راحته وتنظر إليه قائلة له: أحبك. يقف غسان وتظهر عليه الربكة ولا يستطيع أن يتحدث وكأن الكلام وقف في لسانه، ولكنه يتحامل على نفسه ويقول وهو خافض رأسه: أنا في مشكلة ولا أعرف كيف أخرج منها. عبير: خيراً إن شاء الله، كل مشكلة ولها حل، تنهض وتأخذ بيده، وتقول له: تعال أجلس وأحكي لي القصة.
يجلس غسان ويشرع في الحديث، ولكن جرس الباب يطرق، ينظر إليها: من عساه القادم إلينا الآن؟ لا أدري، ترد عليه عبير، الأفضل أن تذهب وترى من على الباب.