سلطنة عُمان تحتفل بالعيد الوطني الرابع والخمسين المجيد المجيد
Adsense
مقالات صحفية

صمود الروح في وجه تيار الحياة

  ناصر بن خميس السويدي

في زمن يعج بالتناقضات والتحولات، يصبح التمسك بالمبادئ النبيلة تحدياً حقيقياً. الكل يسير في اتجاه الريح، يلهث وراء مكاسب سريعة وتبريرات زائفة، بينما الحرام بات يزين بواجهات لامعة وكلمات ملساء تخفي حقائقه القبيحة. لكن هناك قلة، قلة صامدة تقف بصلابة الجبال، تتشبث بمبادئها وكأنها درع من نور يحميها من أمواج الإغواء.

أنت هنا، بين هؤلاء القلة، تختار أن تقف ثابتًا في وجه طوفان من الأعذار والمبررات. تسمع همسات العابرين: “الجميع يفعلها، ما المشكلة في أن تتبع الجمع؟”، ولكن في داخلك صوت أعمق وأصدق يهمس: “الحق لا يتغير، مهما تغيرت الأهواء ومهما تغيرت الأعداد”.

تخيل أنك تسير في شارع مزدحم، الجميع يهرول في نفس الاتجاه، لكنك تتوقف وتنظر خلفك إلى الطريق الذي جاء منه النور، الطريق الذي ضاع بين الأضواء الخافتة والضوضاء. تقرر العودة إلى الأصل، إلى طهارة الفطرة والصفاء الأول، لأنك تعلم أن الأمان الحقيقي لا يكمن في السعادة اللحظية أو التصفيق الجماعي، بل في ضوء يملأ قلبك ويطمئن روحك.

قد تبدو وحيداً، غريباً عنهم، بل قد تواجه تعليقات لاذعة ونظرات استغراب. لكن تذكر أنك لست وحدك في هذه الرحلة. فهناك على مر العصور أناس مثلك وقفوا بوجه أمواج الطمع والفساد، ودفعوا الثمن ليحافظوا على نقاء قلوبهم. هم الآن ذكريات خالدة ترويها الحكايات كأبطال لم يتنازلوا عن مبادئهم.

وها أنت، أمام تحدٍ جديد، تعلم أن الحساب يوم يأتي يكون فردياً. لا أحد هناك ليبرر أو يشفع لضعفك أو تهاونك. تختار أن تسير كما أُمرت، لا كما رغبت، لتكون شاهداً على نفسك أنك اختصرت طريق الفتنة وفضّلت الوقوف وحيداً على السير مع الجمع الضال.

في لحظات التأمل في الليل، عندما يكون الصمت سيد المكان، تتذكر أنه مهما كانت المعارك التي خضتها والشكوك التي واجهتها، فإنك قد ربحت شيئاً أثمن: نفسك.

تجلس في الظلام، حيث لا يرى أحد قراراتك ولا يسمع أحد نبضات قلبك المتسارعة. تنظر إلى الداخل وتجد ذلك النور الذي ما زال يضيء رغم كل العواصف، نور الضمير الحي الذي لم ينطفئ. إنه ذلك الجزء منك الذي يعبر عنك بصدق، يذكرك أنك اخترت الطريق الأصعب ولكن الأصدق، الطريق الذي ستسير عليه شامخ الرأس دون ندم.

تتذكر لحظات كانت مغرية بالاستسلام، لحظات كان من السهل فيها أن تتخلى عن مبادئك لتكسب مكانة زائفة أو راحة مؤقتة. لكنك وقفت في وجه الريح، رفضت أن تساوم على ما تعتقده حقاً، وتعلمت أن الوقوف ضد التيار ليس ضعفاً بل قوة لا يمتلكها إلا القليلون.

تتخيل لحظة الحساب، يوم تتكشف فيه جميع الأسرار وتُعرض الأعمال بلا رتوش أو تزييف. ترى نفسك واقفاً، فخوراً بما قدمت، راضياً عن خياراتك. قد لا تكون قد كسبت التصفيق أو الشهرة، لكنك اكتسبت سلاماً داخلياً لا يقدر بثمن، سلاماً ينبع من معرفة أنك اخترت الحق، ورفضت أن تتنازل عن مبادئك حتى لو تخلى الجميع عنها.

وفي نهاية المطاف، تدرك أن الثبات على القيم ليس مجرد موقف عابر، بل رحلة مستمرة تحتاج إلى قوة وتضحية. إنها نداء إلى النفس بأن تكون شاهدة لك لا عليك، بأن تظل مستقيمة في زمن الانحناء. ومع كل يوم يمر، ومع كل تحدٍّ جديد يواجهك، تتأكد أنك لست وحدك؛ هناك من سبقك، وهناك من سيتبعك، وستظل القيم النقية أبدية، لا تموت بمرور الأزمان، ولا يضعفها اختيار القلة لها.

تبتسم وأنت تدرك أن الثمن كان غالياً، لكن المكافأة الحقيقية ليست هنا، بل في السلام الأبدي، في ذلك الوعد بالجنة الذي لم ينسه من خلقك والذي يعرف ما مررت به. عندها فقط، ستعلم أن كل لحظة صبر، وكل مواجهة قاومت فيها تيار الأخطاء، كانت تستحق كل هذا العناء.

الليالي الطويلة تحمل في طياتها لحظات من الشك والتساؤل، أحياناً تهمس النفس الضعيفة: “هل كان كل هذا الجهد مجدياً؟ هل حقاً سأجني ثماره؟” لكنك تعلم أن هذه التساؤلات ما هي إلا اختبار آخر لقوة إيمانك. ترفع رأسك إلى السماء المليئة بالنجوم، وتجد نفسك تستمد طاقتك من هدوئها وسكينتها. تتذكر أن كل نجم يلمع في هذا الفضاء الواسع له دوره، دوره في إضاءة ظلام الكون، تماماً كما أن دورك هو إضاءة ظلام هذا العالم المتلاطم بالقيم المتضاربة.

يمر يوم جديد، وتواجه تحدياً آخر، موقفاً قد يبدو عادياً في عيون الآخرين، لكنه لك هو فرصة جديدة لتثبت قوتك وتمسكك بمبادئك. ربما يتعلق الأمر بإغراء مالي، أو فرصة تتطلب منك التنازل عن جزء صغير من قيمك، أو حتى نقاش يدعوك لتغيير رأيك ليتماشى مع الأغلبية. تتنفس بعمق وتستدعي كل ما فيك من عزيمة لتقول: “لا”، تلك الكلمة التي قد تبدو بسيطة، لكنها تحمل في طياتها معنى الاستقلالية والشجاعة.

تدرك أن الثبات على المبادئ هو بمثابة بناء قصر في داخلك، حجر فوق حجر، كل موقف تصمد فيه يزيد القصر جمالاً وصلابة. الناس من حولك قد لا يرون هذا البناء، قد لا يفهمون مدى الجهد الذي بذلته في كل مرة اخترت الطريق الأصعب. ولكنك تعرف، وتفخر بأنك استطعت أن تظل وفياً لنفسك.

مع مرور الوقت، تكتشف أن هناك آخرين يراقبونك بصمت، يرون فيك مثلاً أعلى أو شعلة أمل، حتى لو لم يخبروك بذلك. قد تظن أنك تسير وحيداً في هذا الطريق، لكن الحقيقة أن صمودك يلهم آخرين ليقفوا مثلك، ليتعلموا أن الاستقامة لا تعني العزلة بل هي قوة تقود نحو نور الحقيقة.

وفي النهاية، عندما يأتي وقت الرحيل، ستنظر إلى الوراء وتجد أن حياتك كانت مشواراً مليئاً بالتحديات والاختبارات التي نجحت فيها. ستعرف أنك اخترت الطريق الذي لا يمشيه إلا الأقوياء، طريق الاستقامة الذي تكلل بالنور والراحة الأبدية.

وهناك، في الدار الآخرة، حين يقال لك “سلام عليكم بما صبرتم”، ستشعر بأن كل لحظة من الكفاح والتحدي كانت تستحق، وستفهم أن الحفاظ على المبادئ كان أعظم نجاح حققته في حياتك.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights