عبق الذكريات: جسرٌ بين الماضي والحاضر
ناصر بن خميس السويدي
وأنا على ارتفاع ٤٠ ألف قدم عن سطح البحر، أتطلع من نافذتي إلى الدول التي نمر عليها، والأماكن الجميلة من بحار وجزر ومدن، مستحضراً في نفسي ذكرياتٍ تمر كشريط في عقلي، تختزل سنوات من الطفولة الرائعة التي لن تتكرر. أرى أمامي صوراً من الماضي، حيث كانت الحياة بسيطة، متعبة، لكنها أصيلة، تحمل في طياتها معنى خاصاً لكل لحظة نعيشها.
العالم تغير كثيراً؛ فقد أصبحت الحياة مليئة بالتسهيلات، لكنها في الوقت نفسه معقدة. عشنا أياماً كان التعب فيها جزءاً من كل إنجاز، والبساطة تطغى على كل شيء، ولم يكن لنا الكثير من الخيارات، لكن كان ذلك جزءاً من الجمال في تلك الأيام. أما الآن، فكل شيء أصبح مختلفاً. جيل اليوم، بعالمه الرقمي وسرعة الوصول لكل شيء، قد يجد صعوبة في فهم ما نعنيه، وقد يرى قصصنا من الماضي وكأنها مبالغات لا تمت للواقع بصلة.
لكن نحن نعلم، ونشعر بكل لحظة عشناها، أن هناك قيمة في تلك البساطة، وجمالاً في ذلك التعب. كانت أياماً تصنع القيم وتترك الأثر، وأتمنى أن يجد الجيل القادم طريقاً ليرى ما رأيناه، ولو من خلال قصصنا وذكرياتنا.
وأتمنى، من أعماق قلبي، أن يتمكن الجيل الجديد من استشعار ما كنا نشعر به، حتى لو كان من خلال القصص التي نرويها لهم. هي ليست مجرد حكايات، بل هي ذكريات محفورة بداخلنا، ذكريات نُحِتت بتفاصيلها الصغيرات في الذاكرة والروح، لا يُمكن لأي تغيُّر أن يمحوها.
نروي لهم كيف كنا نعيش بدون أجهزة ذكية، ونتواصل دون رسائل نصية أو مكالمات فيديو. كانت الزيارات وجهاً لوجه، والأحاديث لا تخلو من الضحكات الحقيقية والنظرات العفوية. نتذكر كيف كنا نسعى ونجتهد للوصول لأبسط الأشياء، وما أجمل تلك السعادة التي كانت ترافقنا، حينما نجد ما كنا نبحث عنه بعد جهد.
ربما لن يفهموا تماماً ذلك العالم البسيط الذي لم يكن بحاجة إلى تكنولوجيا متقدمة ليصبح سعيداً؛ ولكنه كان غنياً بروحه، مليئاً بأصدق اللحظات. نعم، كانت الأيام أكثر تعباً، لكن كانت قلوبنا أكثر رضا، وكانت علاقاتنا أقرب وأعمق.
كلما نظرت من نافذتي اليوم، أحمل أمنيتي أن يبقى جزء من تلك الروح الجميلة حياً، وأن يجد الجيل الجديد طريقته الخاصة في تقدير ما كان، حتى وإن لم يكن ذلك على النحو الذي عشناه. في النهاية، نحن مجرد عابرين في هذا العالم، لكن ذكرياتنا ستظل جسرًا يوصل بين الماضي والحاضر، وجسرًا بين أجيال قد تأتي وتذهب.
وأنا أغوص أكثر في هذه الذكريات، أجد نفسي ممتنًا لكل لحظة عشناها. إنها الذكريات التي جعلتنا على ما نحن عليه اليوم، ذكريات الأعياد مع الأهل، ليالي الصيف في الحارة مع الأصدقاء، والأيام التي كنا ننتظر فيها عطلة نهاية الأسبوع بفارغ الصبر للذهاب إلى البحر أو للعب في الحقول. كانت كل لحظة تحمل معنى، كل خطوة كانت مغامرة، وكل موقف درسًا نحتفظ به في أعماق قلوبنا.
العالم من حولنا يستمر في التغير، وكل جيل يأتي بعالمه وتحدياته. لكنني أؤمن أن لكل جيل جماله الخاص، وأن على الجيل الجديد أن يخلق ذكرياته، ويعيش لحظاته بكل عفوية وحب. ربما لن يفهموا تمامًا أيامنا، لكنهم سيصنعون أيامهم بطرقهم، وسيبنون عالماً يحتفظون فيه بأحلامهم وذكرياتهم.
وفي النهاية، يبقى الأمل أن نترك لهم إرثاً من قيمنا وتجاربنا، أن نحكي لهم عن تلك الأيام ليس لتكون مجرد قصص تُروى، بل دروساً تعلّمهم القوة والصبر، تقدير الأشياء الصغيرة، وقيمة كل لحظة يعيشونها. نترك لهم جزءاً من الماضي ليبقى نبضه حياً، ليحكي لهم أننا مررنا هنا وتركنا أثراً قد يكون لهم، ربما، دليلاً أو إلهامًا لعيش حياة مليئة بالشغف والمعنى.