رحلة العمر: أثرٌ باقٍ وموعدٌ مع الخلود
ناصر بن خميس السويدي
الحياة رحلة، ونحن المسافرون فيها لفترة محددة كتبها الله لنا، وسنتوقف عند نهاية هذه الرحلة في الزمان والمكان الذي قدّره الله قبل أن نولد. ما بين البداية والنهاية، نسير متأملين، نتعلم ونكتشف ونختبر. لكلٍّ منّا طريقه الخاص، مليء بالمواقف والتجارب التي تشكل وجوده وتضيف إلى رحلته معنىً وقيمة.
الحياة محطة بعد أخرى، بعضها مليء بالسعادة والنجاح، وبعضها الآخر قد يحمل تحديات وصعوبات تجعلنا نكبر ونتغير. ومع كل خطوة نمضيها، نترك بصمات في قلوب الآخَرين، ونتعلم دروساً تهدينا وتوجهنا. قد يرافقنا البعض لفترة، وقد نودع آخرين، لكن ما يبقى دائماً هو الأثر الذي نتركه من خلال أفعالنا وأخلاقنا.
رحلتنا ليست مجرد مسار فرديّ؛ بل هي جزء من قصة أكبر، تربطنا بجميع مَن حولنا. وبمقدار ما نمنح من خير وسلام، نكمل تلك القصة ونترك إرثاً يبقى حتى بعد مغادرتنا.
وعلى طول الطريق، نواجه محطات تجعلنا نتوقف ونعيد التفكير، نعيد حساباتنا، ونراجع أولوياتنا. قد تضعنا الحياة أمام اختبارات صعبة، لتمنحنا من خلالها القوة والصبر، فنصبح أكثر حكمة وقدرة على التعايش مع الآخَرين بسلام. ومع مرور الأيام، نكتشف أن الرحلة ليست مجرد الوصول إلى نهاية معيّنة، بل هي في تلك اللحظات البسيطة التي نتذوق فيها الجمال ونشعر بالامتنان.
وفي رحلتنا، تكون العلاقات الحقيقية والأعمال الطيبة والجود بالنفس هي ما يعطي لحياتنا مغزىً. حين نسير نحو وجهتنا الأخيرة، ندرك أن ما يبقى ليس المال أو المكانة، بل المحبة والعطاء، والذكرى الطيبة التي تظل نابضة في قلوب من أحبونا ورافقونا.
وهكذا، تكون الحياة أمانة نؤديها، وجسراً يعبرنا نحو أفق أرحب كتب الله لنا اللقاء فيه، حين تنتهي الرحلة وتكتمل الحكاية.
وبينما نمضي في رحلتنا، نتعلم أن السعادة الحقيقية لا تكمن في بلوغ القمم فحسب، بل في تقدير اللحظات البسيطة التي قد تمر دون أن ندرك قيمتها؛ مثل ابتسامة صديق، أو دعم من نحب في لحظة ضعف، أو حتى سكون الطبيعة من حولنا.
نجد أن الحياة ليست سباقاً للوصول إلى أهداف بعيدة فحسب، بل هي فن العيش في الحاضر، والتأمل في كل خطوة، وتقدير ما لدينا الآن. نكتشف أن العطاء بصدق يخلق أجمل الذكريات، وأن مساعدة الآخرين تزيد الرحلة بهجةً ومعنىً. فكل خير نبذله، وكل حب نمنحه، وكل حكمة نتشاركها تصبح جزءاً من إرثنا، وقطعة من قصة حياتنا.
وعندما تحين لحظة النهاية، نستطيع أن نرحل بسلام إذا كانت قلوبنا مفعمة بالحب والنقاء، واثقين بأننا قد تركنا أثراً طيباً وبصمة تضيء الطريق لمن يأتي بعدنا.
ومع اقترابنا من نهاية الرحلة، تبدأ الحياة تتجلى بمعانيها الأعمق، وندرك أن كل تحدٍّ مررنا به كان درساً، وكل لحظة فرح كانت نعمة تستحق الشكر. نرى أن الخير الذي زرعناه قد أثمر، وأن القلوب التي جمعناها من حولنا هي أثمن ما اكتسبناه.
حينها يصبح السلام الداخلي هو الوجهة الأخيرة، فنحن نترك العالم لكننا نبقى فيه من خلال ذكرياتنا وأعمالنا. ندرك أن العمر ليس بعدد الأيام، بل بما زرعناه فيها من معانٍ وقيَم، وأن منجزاتنا الحقيقية هي تلك التي تشعّ بالنور في قلوب من أحببناهم.
وفي تلك اللحظة، نستقبل الرحيل برضىً وطمأنينة، مطمئنين إلى أن رحلتنا كانت جزءاً من رحلة أكبر وأعظم، وأن ما قدمناه في هذه الحياة يظل معنا في رحلتنا الأبدية.
حين نصل إلى تلك المرحلة من الوعي والسكينة، ندرك أن الحياة كانت مدرسة، علّمتنا الكثير وصقلت أرواحنا، وأن كل لحظة عشناها كانت تهيئنا للقاء أكبر. نترك الدنيا ونحن نعلم أننا قد أدينا الأمانة، وحاولنا قدر استطاعتنا أن نكون نبعاً للعطاء ومصدراً للسلام.
ربما تكون أجمل ثمار رحلتنا هي الذكريات الطيبة التي صنعناها، والأيادي التي دعمناها، والكلمات التي طيّبنا بها خواطر من حولنا. ندرك أن الحياة ليست عن مقدار ما أخذنا، بل عن مقدار ما أعطينا دون مقابل، وأن أثرنا في القلوب هو الإرث الحقيقي الذي لا يُنسى.
وبينما نخطو نحو النهاية، نمتلئ بالأمل والرجاء، بأن رحلتنا كانت مقدمةً لرحلة أخرى، أبدية ومليئة بالنور. فنحن نرحل عن هذه الدنيا، ولكن نغادرها بشوق إلى اللقاء مع أحبتنا، في دار الخلود، حيث لا فراق ولا ألم، وحيث يجازى كل مجتهدٍ بسلام دائم ورحمة واسعة.