سلطنة عُمان تحتفل بالعيد الوطني الرابع والخمسين المجيد المجيد
Adsense
مقالات صحفية

الهيمنة العنكبوتية

د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ مساعد بجامعة Unishams

بين ادِّعاء القوة وسيطرة الضعف يحيا الإنسان في مجتمعات متنوعة تكثر فيها رؤى ومسميات وتتلاقى مصالح وأمنيات، وحينها ينخدع كثير أفرادا كانوا أو جماعات، عندما يقدّرون موازين القوى الحقيقية ويقوّمونها، فكم تستهويهم بين إغراء وإغواء! وعندما ينجلي الظلام تبدو تلك القوى خيوطا عنكبوتية وبيوتا واهية.

وقد أشار القرآن الكريم إلى بيت العنكبوت ووصفه بأنه “أوهن البيوت”، وفي هذا يقول الله تعالى:”وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ “.(العنكبوت: من الآية41).
وسياق هذا الوصف ورد في ضرب مثلٍ للذين اتخذوا الآلهة والأوثان من دون الله أولياء يرجون نَصْرها ونفعها، ويحسبون أنهم ينفعونهم ويقرّبونهم إلى الله زلفى.

وسر اختيار (الْعَنْكَبُوتِ) في التشبيه يكمن في ضعفها، وقلة احتيالها لنفسها، وقد ظنّت عندما اتخذت بيتا أنه سيأويها ويكفيها، وسرعان ما انكشف أمر هذا البيت الوَهِن، فلم يُغنِ عنها شيئا عند حاجتها إليه.

وهذا الوصف بسياقه وحالته ليس ببعيد منا، فلكلّ عصر أولياؤه الذين تعتقد فيهم مجتمعاتهم أنهم قادرون على فعل كل شيء، وينسجون حولهم بيوتا من خيوط عنكبوتية، وينسون أن تلك الخيوط ما هي إلا سراب، وحقيقتها يوما ما ستتلاشى متمزّقة عندما تهب الريح عليها، وتذهب أدراج الرياح، وما أسرعها!
وهذه البيوت نعيشها ونحياها ونراها في مجتمعاتنا، وينغمس كثير منا في الاعتماد على تلك الخيوط المنسوجة التي تبدو لرآيها أنها محاطة بغلاف محكم لا يمكن الاقتراب منه، لكن تلك الهالة -لا محالة- ستتبدّد عند أول منعطف حقيقي.

وقد يلجأ أناس إلى آخرين يعتمدون عليهم ويطلبون منهم الدعم والمساندة، ويتهافتون عليهم خاشعين، ويعتقدون أن قوة الآخر حُكما كانت أو مالا أو علما أو غير ذلك لا تزلزل ولا يضعفها شيء، ولو علموا أن تلك القوة إلى زوال -بإرادة الله- ما لجؤوا إلّا إليه، وما طلبوا العون إلا منه سبحانه وتعالى.

وأذهب أبعد من ذلك حين أقول: قد يتراءى لمجتمع أنه يستمد قوته من هيمنة عنكبوتية تُضفي عليه خيوطا سيميائية تعمل على نسجها في قلوب مجتمعات استشعرت ضعفها؛ أملا في زرع الخوف والرهبة داخلها ولا يُسمح لها إلا برؤية خيوط عنكبوتية منسوجة نسجا ظاهره مُحكم وباطنه مُفكك .

ويقيّد الله تعالى لتلك الهيمنة العنكبوتية مَنْ يبيّن للمجتمعات أن خيوطها هشة، وأن قوتها واهية، وأن عزيمتها خائرة، وأنها مهما علت فهي عاجزة، والذي يصطفيه الله تعالى لإجلاء تلك الخيوط قولا وعملا يضع نصب عينيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم:”يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها. فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ، وما الوهْنُ ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ”. (صحيح أبي داود: 4297).

وقد وصّف النبي صلى الله عليه وسلم المشكلة والحل؛ حيث “حب الدنيا” يعني الحِرص علَيها والتطلُّع فيها وترك العَملِ للآخرة، ومن ثمَّ مخافة الموت وحب الحياة ومتع الدنيا؛ ولذا يُترك الجهاد في سبيل الله تعالى.
وإذا كان هذا توصيف المشكلة فإن الحل واضح جَليّ من السياق، فمطمع تلك الهيمنة العنكبوتية في غيرها من المجتمعات لم يأتِ إلا من إدراكهم شدة تفرق تلك المجتمعات وقلة شجاعتهم، وإن كان عددهم كثيرا إلا أنه كغثاء السيل لا نفعَ فيهِ ولا فائدةَ.

ونأمل أن تدرك تلك المجتمعات أنها ظلمت نفسها حين اعتمدت على قوى واهية وخيوط عنكبوتية لا خير فيها ولا أمل، وأن القوة الحقيقية مستمدة من الله وحده وفي حماه.

ولعل المستقبل القريب يحمل خيرا لنا جميعا ولتلك المجتمعات التي نأمل أن تعي حقيقة الأمر، وتتماسك وتتشابك لتكوّن بيوتا نسيجها بنيان مرصوص؛ ومن ثم تتلاشى تلك الهيمنة العنكبوتية.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights