شبح الحرب يحزم حقائبه…بُعداً له..
عبدالحميد بن حميد الجامعي
ربما كان من الخير أن أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية طائرتها الاستطلاعية التجسسية ( RQ-4A Global Hawk) التي تفوق الطائرة المقاتلة الأمريكية ذات الصيت (F35) كلفة بأضعاف وصلت لثلاثة أضعاف في بعض التقارير، ومن الخير أيضا أن قامت إيران بإسقاطها، واستثنت الطائرة المأهولة بالبشر المصاحبة لها، أقول ربما من الخير أن كانت هذه الواقعة بهذه الصياغة، وربما هي استجابة طبيعية لوجود نقطة محورية او حبكة تصل إليها كل مناحي الحياة من قمة وقاع، وشِرة (شدة) وفترة..
لقد بات شبح الحرب أكثر بعدا مما كان عليه قبل أيام، لا سيما بعد استهداف الناقلتين النفطيتين في خليج عمان، والسلام أكثر قربا الآن، وذلك أن إسقاط طائرة بهذا التقدم والعلو والقدرة العالية على الاختفاء في سبيل التجسس، هو أمر دقيق جدا، يدلل على القدرة الدفاعية الجوية العالية لإيران، وربما يُذكر ذلك الأمريكان بواقعة استيلاء الإيرانين في ٢٠١١ على طائرة تجسس أمريكية من نوع ( RQ -170 ) قادمة من أفغانستان والسيطرة عليها والتحكم بها حد إنزالها للأرض وغنمها، وأن هذا الإسقاط الأخير من نتائج تلكم الحادثة في ٢٠١١ وما اشتغلت عليه إيران لدراسة تلك الطائرة وتفكيك شفراتها وخوارزمياتها، حسب مايكل مالوف موظف البنتاجون السابق في مقابلة مع قناة RT الروسية حول إسقاط طائرة التجسس الأخيرة، هذا من الناحية التقنية، أما من ناحية العقيدة، فجرأة إيران على إطلاق صاروخ اتجاه الطائرة بمجرد دخولها المجال الجوي الإيراني وفوق المياه (دون اليابسة)، ومع عداء دول الجوار العربي لها، والشحن الإعلامي والعسكري ضدها وحلفاءها ظلما وعدلا، إن تلكم الجرأة تعكس العقيدة القتالية لدى المكون البشري في المنظومة العسكرية الإيرانية، وهي قد تكون الكفة المرجحة الأكبر لتحقيق النصر في المواجهات العسكرية، أكثر من كفة السلاح ذاته..
إن ما يدلل على هذه القراءة هو التطورات ما بعد إسقاط الطائرة الامريكية من الجانبين، فالجانب الإيراني أكد مع عدم رغبته بالحرب استعداده لمواجهة أي عمل عسكري محتمل، ولقد دلل إسقاط طائرة الاستطلاع على القدرة على إسقاط ما هو أهون منها من طائرات مقاتلة تعتمد على السرعة والمناورة مهما بلغ تطورها في حال شن غارة جوية، وقدرتها على صد أي هجوم صاروخي أو بالرد على مصادر إطلاقه دون تردد، ومن الجانب الأمريكي دلل تراجع الرئيس الأمريكي عن قرار شن ضربة محدودة لثلاثة مواقع بعد إعطائه الموافقة عليها وقبل عشر دقائق من تنفيذها على إدراك خطورة التداعيات لمثل هذه الهجمات بعد الكشف الأخير للقدرة الجوية الإيرانية وعقيدتها، وعلى ظهور جناح أكثر وعيا داخل البيت الأبيض لمدى خطورة الموقف، وقد اكتسب من الحادث الأخير وزنا أكبر في القرار الأمريكي عموما، حتى استطاع إقناع الرئيس الأمريكي بالتراجع، وربما كان للجانب (الإنساني) الذي تغنى به الطرفان في التدليل على عدم رغبتهما بالحرب سببٌ في لملمة شبح الحرب لحقائبه مؤذنا بالوداع، فالإيرانيون أكدوا امتناعهم عن إسقاط طائرة مؤهولة بخمس وثلاثين نفسا بشرية كانت مع طائرة التجسس الامريكية تقديرا للجانب الانساني وحفظا للأرواح، مع قدرتهم على إسقاطها، والرئيس الأمريكي برر تراجعه عن الضربة المحدودة بعد موافقته عليها أنها كانت لتسقط قتلى قد يصل عددهم لمائة وخمسين نفسا، هذا فضلا عن تبريرات سابقة له أنه قد يكون خطئا بشريا إيرانيا محدودا تسبب في إسقاط الطائرة الأمريكية…
إن هذا التقاطع والهدوء الأخير (والإنسانية) البينية في التعاطي وواقعة إسقاط الطائرة يدلان على أن شبح الحرب يكاد يتلاشى، وعلى دعاة السلام والعقلاء من البشر في الداخل الأمريكي وفِي المحيط الإيراني وفِي أوروبا والعالم استثمارُ هذا التقارب والتقاطع الأخير، وتكثيفُ جهود الوساطة بين الجانبين لنزع فتيل الحرب أكثر من ذي قبل، فلكل مقام مقال، ومقام اليوم يتطلب التكثيف والمضاعفة في الدبلوماسية لإحلال السلام.. فالأرضية أكثر تهيئة من أي وقت سبق..ولا شك أن لعمان في ذلك قصبَ السبق، والرايةَ البيضاء.
إن قراءتنا للمستقبل بعد حادثة إسقاط طائرة التجسس الأمريكية هو ابتعادُ شبح الحرب ابتعادا نهائيا، فحتى دوافع الحرب الاقتصادية لم تعد موجودة بعد صفقات الأسلحة مع دول الخليج الأخيرة، والفواتير ذات الصِّلة المدفوعة من قبلها، بل ستكلف الحرب بهذه القدرة الإيرانية المثبتة من حادثة الإسقاط الأخيرة أمريكا الكثير اقتصاديا وبشريا، وكذلك دافع الحفاظ على دولة الاحتلال في فلسطين من تهديد إيران، ليس له داعم حقيقي الآن لانتفاء أي تهديد مباشر عليها، لا سيما وأن الإسقاط كان درسا لبعض المراهقات السياسية المتحمسة للحرب وصفعة لها، بما فيها كيان الاحتلال في فلسطين، وضرها اليوم بوجود حلفاء إيران على حدود فلسطين المحتلة، وعقيدتهم القتالية المجربة من قبل كيان الاحتلال عام ٢٠٠٦ يخفضان من إمكانية قيام حرب أمريكية إيرانية، الآن على أقل تقدير، ونرى من ثم أن تسارعا في وتيرة السعي للسلام سيوجد بين الولايات المتحدة وإيران، ولا يبعد أن يتم تفعيل الإتفاق النووي من جديد بعد إيجاد بعض التعديل الشكلي، الذي يحفظ للولايات المتحدة بعض ماء وجهها، والذي قد تتسامح فيه إيران، وستُكَثف في سبيل ذلك الجهود الدبلوماسية لمعسكر السلام وجنوده، وستكثر الزيارات المكوكية وتنشط الوساطات، وسيكون من ارتدادات ذلك الموجبة تراجع الحروب وشدتها في اليمن وسوريا والاستقرار في العراق وغيره من الدول العربية والعالم، فالأرضية بعد هذا الحدث هو للسلام، وصدق الله ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”، فلولا الإعداد والاستعداد والقدرة العسكرية لكانت حربٌ، وذهب ضحيةً لها مئات الألوف من الأنفس من الجانبين، ومعادلة الاستعداد العسكري والعقيدة القتالية أمران يؤسسان السلام للدول، والدليل أمريكا ذاتها، فَعلى سطوها وخروجها على المظلة الدولية والقانون الدولي في غير ذي مرة، فضلا عن الڤيتو، وتسببها في كثير من المآسي العالمية منذ الحرب العالمية الثانية، وقنبلتي هيروشيما وناجازاكي الى حرب فيتنام فالعراق واليوم في سوريا واليمن فلَو لم تكن ذات قوة وسطوة عسكرية لتم غزوها واحتلالها منذ أمد، والتخلص منها بزعم مروقها على القانون الدولي أو بدونه، فالقوة العسكرية الذاتية صمام أمان للأمم، والاكتفاء الذاتي لها في غذائها ودوائها وسلاحها يمنع تحكم الأعداء بها، وغير ذلك يعد مهددا لبقاء الأمم واستقرارها، ولنا في دولنا العربية أقرب دليل، وأعظم برهان..
لنُصلِ لله وكل دعاة السلام والأمان البشري والعالمي أن تكون قراءتنا للمشهد الحالي هي الراجحة، وأن شبح الحرب قد ولى، وأن العالم سيغدو منذ اليوم أكثر أمانا وأكثر اتزانا وتفاهما، لا سيما في الشرق الأوسط والخليج خصوصا، وأن عالما بهذا الجمال قد انبلج، حماية للإنسان في الخليج وفِي إيران وفِي أمريكا، وحفاظا لموارده في كل هذه الأقطار…
عبدالحميد بن حميد الجامعي
السبت
١٩ شوال ١٤٤٠ هـ
٢٢ يونيو ٢٠١٩ م