جريمة وعسس- الجزء الحادي عشر
خميس بن محسن البادي
فيما سبق تابعنا القبض على المتهمين الثلاثة في قضية اعتدائهم على همام وزوجه، ودعم شهم لابنه الضابط في مواصلة عمله في القضية، وفي المقابل تصرفه المريب نحو الزوجين بدعوته لهما للمنزل بواسطة ابنه سهم، ومراجعته لقانون الجزاء في وقت حرج من تورط فهم وزميليه بجريمة تعدّيهم على الزوجين وهو الذي لم يعتد ذلك منذ فترة ليست بالقصيرة.
وفي موقع العمل طلب سهم ملفات قضايا السرقات المتبقية من مجموعة القضايا التي سبق وأن تم طلبها من مراكز الشرطة ضمن دائرة الاختصاص المكاني، واطّلع عليها من جديد، واحتفظ بها لديه في مكتبه، وبذات الوقت، باشرت الجهة المعنية بالتصدي لآفة المخدرات والمؤثرات العقلية، سؤال فهم ونجم وهما بمحبسهما الاحتياطي عما ورد ضدهما عرضاً في التقرير الطبي الخاص بقضية همام وهيام والعمل على إنشاء قضية أخرى ضدهما طبقاً لذلك بجرم تعاملهما مع المخدرات يتم تكييفها القانوني لاحقاً وفقاً لمعطياتها وما ستسفر عنه إجراءات سؤالهما وما يتم جمعه والتوصل إليه ضدهما في ذلك، في حين أن القضية التي كان لها صدىً لدى عموم المجتمع وهي التي قلبت وهيضت في الأنفس المواجع وأرّقت في المخادع السبات على المضاجع، وبددت على الأرائك المهاجع، وقد أضحى الرجال المخلصين اليوم مستبشرين متأملين بأن لا يمنع مانع من عقاب المجرمين العقاب الرادع، الذين تضمهم راهناً جدران السجن وهم قاب قوسين أو أدنى من القول الفصل فيها، القول العدل، القول الحق وهو الحكم ضدهم، نعم ضد من طغى وتكبر وعلا في الأرض مجوناً وصخباً وأذىً للناس، ولكن أنىّ لذلك أن يكون؟، لا ريب أن فريق العمل ومن بعده جهة التحقيق على بيّنة بما يتوجب عليهما تضمينه من إجراءات ثابتة في أية قضية وليس في قضية همام وهيام فقط، ولذلك سعيهم دقيق في مثل هذه الجوانب إيماناً منهم بأن ذلك هو ما سيُبنى عليه من أحكام يرجونها ضد المجرمين استناداً إلى ما يتوصلوا إليه من أدلة وبراهين، وفي هذه القضية الشائكة بوصفها قضية المرحلة الراهنة وكغيرها من القضايا قد جمعت محرزاتها وأدلتها ثم فندت بعناية تامة، فتم ضمها ضمن الأوراق في حافظة القضية والتي تثبت مجتمعة بشكل قاطع ارتكابهم لهذه الجريمة، فهم يعلمون أنه بخلاف ما عكفوا عليه خلال الفترة الماضية من اتّباعٍ للإجراءات الصحيحة الثابتة وجمعاً للبراهين الجلية الدامغة، لا جدال أنه سيكون للقضاء الكلمة المغايرة التي ستتفق وما يتبيّن ويثبت لهيئة المحكمة خلال فترة التقاضي التي قد تستمر لعدة جلسات يتحقق ويمحّص خلالها قاضي الموضوع القضية من كافة جوانبها، ويستمع لما لدى المتقاضين من دفوعات ليتحسس مدى صحة وصدق ما نُسب للمجرمين من تُهم ليتمكن حينها من إصدار قول العدل والحق في القضية الماثلة بين يديه بقناعة تامة، وما اطمأن إليه وجدانه وفقاً لما اتضح وتكشف أمامه، ولذلك سعت الجهتان بجهد حثيث وخبرة متمكنة بما استطاعوا وتهيأ لهم من أسباب لسد كافة الثغرات القانونية التي تحول دون تمكين المجرمين من الخلاص من العقاب القضائي المنتظر في حقهم، وهذا ما ينتظره الجميع بترقب شديد.
فهم وتيّم ونجم ثلاثة أشرار في السجن، تيّم ونجم، الأول لا يحمل من المؤهلات العلمية عدا شهادة الصف الرابع، وهو لا يوجد له موطئ قدم بين أفراد أسرته المفككة وأقاربه، وبالكاد من يسأل عنه أو من يهتم لأمره، فقد سئموا مشاكله وملّوا الوقوف إلى جانبه ومأواه هنا وهناك متنقلاً بين مساكن أقرانه، والثاني لأب له زوجين استقر مع الأخرى بعد طلاقه الأولى، والدة نجم الذي آثر الاستقرار مع أمه وتركهما أبيه تتقاذفه وأمه ظروف وصروف الدهر بنفقة ضئيلة هزيلة لا تفي بالمتطلبات اليومية ما حدا بنجم إلى ترك الدراسة والعمل بعد فترة عصيبة من الزمن تعايش معها بمحنة قاسية فامتهن لاحقاً وظيفة قليلة الدخل، فهو ليس لديه من المؤهلات عدا شهادة الصف السابع فكانت هذه عوامل مساعدة اجتمعت في شخص كل منهما لمضيهما في مسلك الغواية والانحراف بمساعدة رفقاء الأمس واليوم، وليغوي نجم بدوره ومن معه فهم على الانحراف والإنجراف في التيار الجرمي، والسير في طريق الإجرام والجريمة، والذي كان قد التحق بالجامعة وظل يتلقى علومه الدراسية بها متعثراً إلى أقل من السنتين أو يزيد بقليل، حيث تم فصله هو الآخر حتى دون أن يحصل على الدبلوم الجامعي، وسار على درب أقرانه الذين كانوا سبباً في إغوائه وانحرافه، حيث كَثرُ الدق ففك اللحام، فانحرف فهم وتبع هوى النفس وعلى وجهه هام، ورغم ما قام به أبوه وأمه وأخوه نحوه، إلا أنه أبى أن يكون من الصالحين، كما لم يعد يرتاد منزل أسرته بل استقر برفقة زملاء إجرامه، ولذلك أضحى وكأن أمر فهم أمسى لا يعني لأسرته شيئاً، فهل ذلك صحيح أم أن الكبرياء هو ما يدعو لذلك، أم أن فقدان الأمل في استقامة هذا الرجل الشاب هو الذي أدّى بأسرته المثقفة ميسورة الحال إلى عدم إيلائهم لما هو متورط به أية أهمية؟ أسئلة لا يمكن التكهن بجواب معين لها، فهو أولاً وأخيراً ينتمي لهذه الأسرة ويبقى شهم وزوجه والداه، وسهم ضابط الشرطة المخلص لعمله شقيقه، ووسط هذه التساؤلات والمفارقات هذا هو سهم يؤكد لوالديه قبل ساعات من موعد حضور الزوجين همام وهيام اللذان كانا ضحية فهم ورفاقه ليقوم كل منهم لشؤونه حتى موعد زيارة الزوجين لهم، وفي الموعد المحدد والمتفق عليه ها هما على الباب قبالة المساعدة ببيت شهم وأسرته والتي دعتهما للدخول إلى غرفة الاستقبال والجلوس حتى حضور أحد أصحاب البيت، والصدف دائماً خيرٌ من بعض المواعيد، ففي الوقت الذي يلج فيه سهم المنزل من مدخله الرئيسي إلى غرفة الاستقبال يحط والده إحدى قدميه على أرضية ذات الغرفة هابطاً من الدور العلوي عبر السلم حيث همام وهيام، وبعد السلام أقدم سهم على تعريف الثلاثة ببعضهم، وكان شهم قمة في التواضع والطيبة والأخلاق الفاضلة والاحترام الجم مع ضيفيه، ودعى شهم الحضور للجلوس، كما طلب إلى سهم إخبار والدته لمشاركتهم هذه الجلسة، وحتى لا تشعر هيام بالحرج بينهم، والأمر بتجهيز طقوس الضيافة للضيفين.
توجه سهم إلى المساعدة لإبلاغها بإعداد القهوة وإحضارها إلى غرفة الاستقبال، والتي وجدها تعدّها فعلاً، فيبدو أن هذه المساعدة خَبِرت عملها جيداً، وربما للمعاملة الحسنة دورٌ هنا كما هو الضمير الإنساني في كثير من البشر حيث يتقنون واجباتهم ويعرفون كيف يؤدونها بصرف النظر عن واقعهم المُعاش أو ظروف معاناتهم مع من حولهم والمتعاملين معهم، ثم صعد إلى والدته لتبليغها بوجود المرأة وزوجها في ضيافة والده طالباً إليها الحضور بناءً على طلب والده، فأعلمته بأنها ستلحق به دون تأخير، واجتمع شهم وزوجه وابنهما سهم مع همام وزوجه وتناولوا القهوة وتبادلوا الحديث في مواضيع شتى، فالكل هنا على درجة عالية من الثقافة والوعي والإدراك لما حصل عليه كل منهم من درجات العلم والمعرفة وممارسة الحياة العملية والاختلاط البشري المتنوع رغم فوارق العمر بينهم، وكانت جلسة ثقافية بما لذلك من معنى، فكلٌ كان يتحدث بما في كنانته دون أي حاجز أو تكليف، ويبدو أن الطرفان قد تنيّح كل منهما للآخر، فما مدى هذا الانسجام بين الأطراف، وثمة قضية قائمة بينهم، جرمها بشع وفهم أحد مرتكبيها؟.
تم تناول القهوة وما تلا ذلك من أحاديث، ثم تم الأمر بإحضار وجبة العشاء التي حاول الضيفان الاعتذار عنها، لكن ذلك لم يجد صدىً وقبولاً وموافقة، بل دعوة مُلحّة ليتناول الزوجان الشابان وجبة عشاءهما، فقبلا ذلك على استحياء، فحُضّرت المائدة في غرفة تناول الطعام الخاصة بالضيوف، وتم استدعاء الضيفين إليها وتُرِكا ليأكلا بمفردهما إكراماً لهما وعملاً بتقاليد وعادات المجتمع، وكي يكونا على سجيتهما دون خجل أو استحياء من أحد رغم معارضة همام لذلك طالباً إليهم الإنضمام معهما للمائدة لتكون جلسة عشاء مشتركة، ولكن لم يقبل أي منهم طلبه، فجلس وزوجه يتناولان العشاء وهما يمتدحا سهم ووالديه ويتساءلا فيما بينهما عن سبب هذه الدعوة الحافلة المشمولة بالكرم والمحاطة بالاهتمام بهما، وبعد انتهائهما من عشائهما، هذا همام يقدم شكره وامتنانه إلى سهم ووالديه خلال عودة جلستهم من جديد في صالة الاستقبال، حيث وفي سياق حديثهم قدّم شهم لضيفيه مواساته لما سمع عنه وعرفه لاحقاً من ابنه عما تعرضا له من جرم، وقد حثهما على تجاوز مأساة الحدث والعمل على نسيانه قدر ما يستطيعان، حتى لا يكون ذلك عاملاً منغصاً عليهما مذكراً إياهما بنعم الله الكثيرة على الإنسان التي من بينها نعمة النسيان التي تساعد المرء على تخطي أزماته ومنغصاته الحياتية، وشكرهم همام بدوره على مشاعرهم الطيبة معهما والوقوف إلى جانبهما، وهنا انتقل شهم من على المقعد الذي يجلس عليه ليتخذ له حيزاً بجانب همام مقدماً له اعتذاره لما حدث لهما من اعتداء، وأضاف يقول له:
لتعلم يا بنيّ أن ما حدث لكما أنا غير راضٍ عنه بشكل مطلق، وأرفضه رفضاً قاطعاً، وحتى تكون وقرينتك على بيّنة فإنه للأسف بأن أحد المجرمين هو ابني وأمه هي نغم هذه المرأة التي تجلس قبالتنا، وهو كذلك شقيق سهم، فوقف همام مستغرباً مما سمعه، فرأى شهم علامات الاستغراب والتعجب على محيّاه، فوقف هو الآخر متداركاً الموقف طالباً إليه عدم التعجب من ذلك، وأن هذا هو واقع الأمر مكرراً اعتذاره له مما تسبب فيه ابنه لهما، فتقبل همام كلام شهم في تلكم اللحظة على مضض، فهو غير مدرك بعد لما سمعه، ولهذا استأذنهم على عجل للسماح لهما بالمغادرة شاكراً لهم حسن ما قاموا به في حقهما من كرم وحسن استقبال، فللتو كان همام يمتدح ما أحاطته هذه الأسرة به وزوجه من تعامل طيب حافل بالود والتقدير، فهل بذلك تجلت أمامهما علامات التعجب بعد أن كشف شهم لهما عن السبب؟ وماذا يدور في خلد هذا الرجل حتى بدا أنه أغضب ضيفه؟ ولماذا يتصرف بغموض مع من حوله ابنه سهم وزوجه؟ وما هو هدفه من دعوة همام وزوجه لمنزله وإحاطتهما بتلكم الحفاوة وحسن الاستقبال والكرم مع فارق العمر بينهم، وحثهما على تجاوز محنتهما بالنسيان؟ هل هو الخزي الذي ألحقه به ابنه فهم؟ أم هي مشاعر الأبوّة التي بدأت تتحرك ليعمل على ما يمكنه فعله رغبةً منه باحتواء الأمر وعدم استفحاله وإنقاذ فهم من عقوبة منتظرة بحقه قد تكون طويلة الأجل؟ ولماذا لا يكون واضحاً أقله مع ابنه وزوجه عن سبب تصرفه هذا؟ فرغم سؤالهما له وحياد الأم من القضية إلا أنهما لم يجدا منه الإجابة التي تكشف حقيقة توجهه ووضعه من قضية فهم وتصرفه مع الزوجين ؟