قصة قصيرة الجريمة ( الجزء الأول )
خلفان بن علي بن خميس الرواحي
أمطار قوية لم تشهد مثلها البلدة، لحسن الحظ أنها سقطت بالليل وقد عاد الجميع إلى بيوتهم، بدأ الجو في التغير منذ صباح الأمس، وتراكمت السُّحب، ومع فترة العصر أصبح المكان مظلماً نتيجة السحب السوداء، دبّ الخوف في قلوب الجميع، وكان الكل يتراكض للوصول إلى المنازل حتى يحمي نفسه ويطمئن على أهله. الصمت يخيم على البلدة، لا تسمع حركة، حتى السيارات توقفت، لا حركة غير صوت الهواء الذي يصفر عندما يمر بين الأزقة أو يتسلل إلى البيوت من أسفل الأبواب، وأحياناً من الفراغات في النوافذ. فجأةً، يحدث دويٌّ لم يهده الناس، وكأنه انفجار قوي ما لبثت السماء إلا فتحت أبوابها لنزول الماء، لم تكن قطرات وإنما كان الماء يتدفق بكميات كبيرة. لم يستمر طويلاً، هي مجرد دقائق وغمر الماء المكان، الساحات والبيوت والمزارع، انقطعت الكهرباء وعاشت البلدة في تلك الليلة في ظلام دامس. كانت الأسر تطمئن على بعضها البعض عن طريق الاتصال، فلم يتجرأ أحد على الخروج من بيته لأنه لا يعرف ما قد يصادفه في الخارج.
غسان مثل البقية كان مع أسرته، أضاء مصباح هاتفه وذهب ليحضر كرتونة الشمع الذي اشتراه منذ فترة، ويذكر أنه وضعه في مكان ما في غرفة النوم، يسير ليصل متأملاً أن تساعده الذاكرة على إيجاده، لم يبحث طويلاً، فتلك الشموع أخذها يوم عيد ميلاد ابنته (جنة) وجده وخرج من الغرفة سريعاً وأشعل الشمعة الأولى في الصالة والثانية في الممر وبدأ الظلام داخلهما في التلاشي قليلاً وأحسّ من في البيت ببعض الراحة عندما رأى كل واحد منهم الآخر.
يقترب غسان قليلاً من زوجته (عبير) ويمسك بيدها حتى يبعد عنها الخوف، فهو يعرف ما تعانيه خلال الظلام، تحس به وتقترب منه أكثر بحثاً عن الأمان، وتضع رأسها المكشوف على كتفه، انتشرت خصلات شعرها الناعم عليه، وحتى يزيد من راحتها رفع يده إلى رأسها وبدأ يداعب خصلاتها الطويلة حتى أنه كان يرفع بعضها ويقبّله ويشم رائحته.
قصة زواجهما كانت تُحكى في القرية، فقد حاربا العادات والتقاليد والعرف من أجل هذا الارتباط، فكلاهما مختلف عن الآخر، هي من عائلة ثرية معروفة، وهو من أسرة فقيرة تعيش في هذه القرية الصغيرة، اجتمعا معاً في مكان الدراسة، وبدأت بينهما قصة حب استمرت أكثر من خمس سنوات، كل منهما كان مقتنع بأنهما لن يجتمعا تحت سقف واحد إلا إذا أعلنا الانقلاب على المجتمع الذي يعيشان فيه، وقد استعدّا لذلك، ضحّت هي بأسرتها الغنية لتعيش مع حبها لتكوّن حياةً سعيدة مهما كلفها الأمر.
غسان كان وفيّاً لها، فقد أبدلها خيراً عن أهلها في بداية سنوات الزواج، وكان أهله عوناً له، ومع الأيام استطاع أن يقترب من أهل زوجته ويثبت لهم أنه أهلٌ لها، فقد أصبحت له مكانة في المجتمع، فعادت (عبير) إلى كنف أهلها وأصبحوا أسرة واحدة متحابّة.
متثاقلة نهضت عبير عن كتف زوجها، فقد أحسّت بالراحة وتمنّت أن تظل هكذا حتى الصباح، ولكن غسان طلب منها أن تحضر لهم العشاء، نظرت إليه وقالت: ماذا أجهز لكم في هذا الظلام الدامس؟ ابتسم لها قائلاً: أيّ شيء من يدكِ سوف يشبعنا.
تحركت وهو يمسك يدها وكأنه يودّعها ويمدّ جسده على الأريكة حتى يحضر العشاء، تناديه من داخل المطبخ: سيكون العشاء خفيفاً في هذه الليلة الثقيلة. طيب، يردّ عليها بعد أن رفع رأسه قليلاً حتى تصل كلمته إليها.
في الخارج ما زال المطر مستمر في السقوط، ولكن ليس بالقوة التي بدأ بها. الهدوء والظلام جعلا المكان موحشاً وينشر الخوف في القلوب، وصوت الرعد بين الفينة والأخرى يرفع من وتيرة العتمة التي تخيم على المكان. حاول غسان استراق النظر إلى الخارج ولكنه لم يتمكن من رؤية أيّ شيء، تنادي عليه زوجته حتى يساعدها في إحضار العشاء، ينهض ويدخل إلى المطبخ وكأنه لم يرها، يلصق جسده بها، تنتبه له وتناوله دلّة الشاي وتهرب منه متجهة إلى الصالة، يتبعها، ويجلسا ليتناولا العشاء، بعدها يقرر الذهاب إلى النوم فليس هناك ما يشجع للاستمرار في الجلوس، تجهّزا للنوم، وهمس لها: سوف نقضى الليلة هنا بدلاً من الغرفة، وافقته على رأيه ثم نهضت حتى تحضر المخدات والأغطية. قبل أن ينام قرأ غسان المعوذات وآية الكرسي وردد بعض الأدعية التي كان يحافظ عليها دائماً قبل نومه، احتضن زوجته وغرقا في نوم عميق، فقد كان اليوم مرهقاً، ومع الخوف الذي كان يحيط بالمكان، ولكن لما يحسّا بشيء.
بعد صلاة الفجر، بدأ الضوء في الانتشار، ومع شروق الشمس بدأ الناس بالخروج من بيوتهم للاطمئنان على بعضهم البعض وعلى أملاكهم. خرج غسان وقرر الذهاب إلى الوادي الذي ما زال غزير الجريان، بين البرك والطين يجر قدميه إلى الوادي من مكان مرتفع لإحدى المزارع المحاذية للوادي، يلقي نظرة شاملة، وخلال ذلك يرى منظراً غير طبيعيّ، ولكنه بعيدٌ عنه، يحاول أن يواصل نظره إليه حتى يتيقن مما يرى في داخلة: صحيح، إنها سيارة، أظن أن الوادي جرفها، ولكن هل بداخلها أحد، يرد على نفسه: لا أدري، يجب أن أقترب أكثر من المكان حتى أتحقق من ذلك. يتحرك باذلاً جهداً مضاعفاً للوصول مع قوة جريان الماء وعدم ظهور الطريق التي سوف يسلكها، وأخيراً يصل لمكان السيارة، لحُسن الحظ كانت قريبة من سيف الوادي وجزء منها ظاهر والجزء الآخر مطمور في الماء، يقترب أكثر، وفي داخله شيء من الخوف والرغبة في اكتشاف سرّ هذه السيارة.