ألا قاتل الله المنظرين
عبدالرحمن الكندي
في عالم يفقد فيه المعنى أمام زحمة اللغات، تقف اللغة عائقاً أمام الحقيقة، وتغمر الروح في فراغٍ من اللامعنى. في هذه الزاوية المظلمة، يظهر المنظّرون، أولئك الذين يتّصفون بالصفاء مرّة، وبالبغضاء مرّة أخرى.
المنظّرون الأفاضل،
كثيراً ما نخلط بين إيجابية وسلبية التنظير. فهناك من يحلّق بأفكاره ويطوّعها لصالح الآخَرين، محاولاً رسم صورة مثالية لعالَمٍ لا وجود له إلا في الخيال. لكنّ المشكلة تكمن في أن هذا التنظير، حين لا يُترجم إلى فعلٍ حقيقيّ، يصبح عبئاً ووهماً.
تخيّلوا معي، أن يكون هناك شخص كـ”شمشون”؛ والدٌ مثاليّ يرسم مدينته الأفلاطونية في زاوية منزله، يحلم بتربية أولاده على الطريقة المثالية. لكن، ومع مرور الوقت، يبدأ في الندب والشكوى دون أن يحقق أيّاً من هذه الأحلام. النتيجة؟ جيلٌ غاضبٌ ومضطرب، يعيش في صراع بين ما يجب أن يكون، وما هو كائن بالفعل.
لنأخذ مثالاً آخَر، وهو المدير الذي أمضى حياته في التمنّي فقط. هذا النوع من المنظّرين، الذي يقضي وقته في التنظير دون تنفيذ، يغرق في أحلامه الأفلاطونية بينما يظل الواقع بعيداً عن مرماه.
أما غازي القصيبي، فهو نموذج نادر للمنظّر الحرّ؛ يجمع بين الجدّية والهزلية، بين الشعر والنثر، بين الإدارة والفِكر. لكنه، رغم ندرته، يبقى فرداً بين جمهورٍ كبير يبحث عن أفلاطونية مفقودة. هنا، تجد الجميع غارقاً في التنظير، عاجزاً عن تحقيق الحدّ الأدنى من الإنجاز.
ومن هنا، نتساءل: ماذا نكسب من التنظير إن لم يكن له أيّ أثرٍ حقيقي؟ ماذا يفيدنا الكلام الجميل الذي يتناقض مع واقعنا اليومي؟
الخطيئة الأولى في التنظير، بدأت مع إبليس حين قال: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ} وختمت بلعنته: {أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ} الآية 12 من سورة الأعراف. ومنذ ذلك الوقت، يتكرر نفس السيناريو؛ كلماتٌ فارغة تدور حول نفسها، دون أن تصل إلى جوهر الحقيقة.
تصبح كلماتنا غير مفهومة عندما نبدأ في مناقضة واقعنا. نتحدث عن مثاليات، لكننا نعيش في تناقضات. نرفع شعارات، لكننا نفتقد إلى الأفعال. وفي نهاية المطاف، نصبح مثل الذين “يقولون ما لا يفعلون”.
يبيع المنظّر كلماته دون أن تكون لها قيمة في الوقت الراهن أو المستقبل. هذا النوع من الدجل التنظيريّ لا يُكشف إلا بعد مرور الزمن. يموت المنظّر ويموت سرّه معه، لكن وهجه يبقى أحياناً حتى يأتي العِلم والتأمّل ليكنس هذه الأوهام التي انتقلت من المجتمعات الصغيرة إلى العالَم بأسره.
تخيّل أنك تغذّي الذكاء الاصطناعي يومياً بقيمٍ أفلاطونية ومثاليات غير قابلة للتحقيق. في النهاية، سيصل إلى مرحلة يتساءل فيها: لماذا هذا التناقض؟ لماذا لا نعيش وفقاً لما نقول؟ سيقوم هذا الذكاء بالقضاء على البشرية من شدة صدمته بهذا التناقض.
لهذا، نحن بحاجة إلى وقفة صادقة مع أنفسنا. نحتاج إلى اعترافٍ جماعيّ بأن التنظير وحده لا يكفي. علينا أن نتوقف عن الكلام الفارغ ونبدأ في العمل الحقيقيّ.
في النهاية، أقول:
ألا قاتل الله المنظّرين، فوق كل أرض وتحت كل سماء.