حتمية الموت وجمالية الحياة
طه جمعه الشرنوبي
في الأدب العربي، تبرز غادة السمان كواحدة من أعظم الأديبات التي ما تزال كلماتها ترن في آذان القُرّاء بنبرة تتردد بين الحياة والموت، بين الشك واليقين. وفي تعبيراتها الشعرية، نلمس أسلوبها الفريد الذي يمزج بين الواقع الصارخ والتأمل الفلسفي العميق. من بين تلك التعبيرات المذهلة، تأتي مقولتها التي تصف فيها حالة السقوط، حيث يقارن الشخص الساقط من الطابق الخمسين بعابرٍ يعجبُ بزهورِ الشرفات التي يمر بها في طريقه إلى الموت.
تقول غادة السمان:
«مثل شخص يسقط
من الطابق الخمسين
ويعجبُ بزهورِ الشرفات
التي يمر بها في دربه إلى الموت».
هذه الصورة الأدبية تحمل معانٍ متشابكة، تستعرض العلاقة المعقدة بين الإنسان والموت، وكيف يتعامل الإنسان مع فكرة الزوال الوشيك. عندما نتصور هذا المشهد، فإن أول ما يرد إلى الذهن هو لحظة سقوط الشخص من علوٍّ شاهق، حيث يعلم يقيناً أن نهايته تقترب مع كل ثانية تمرّ. ولكن ما يثير العجب هنا هو الانشغال بالجمال في وسط الكارثة، بالإعجاب بالزهور.
وهُنا تبرُز القدرة على رؤية الجمال في مواجهة الفناء.
إن القدرة على رؤية الجمال في لحظات السقوط، كما تصفها غادة السمان، هي إحدى أعمق تجليات الطبيعة الإنسانية. إنها قدرة لا تقتصر على الهروب أو الإنكار، بل تعكس رغبة داخلية في التمسك بالأمل والبحث عن معنى، حتى في اللحظات الأكثر يأساً. الإنسان، وهو على وشك الزوال، ما يزال يجد نفسه مفتوناً بتفاصيل الحياة، متمسكاً بجمال الزهور في طريقه إلى الهاوية.
ربما تسعى غادة السمان من خلال هذه الصورة إلى تسليط الضوء على لحظات الإدراك المتأخرة التي نمرّ بها عندما ندرك أن النهاية تقترب. تلك اللحظات التي تعود فيها الحياة لتكشف لنا عن جوانبها الأكثر إشراقاً، وكأنها تعيد لنا رغبتنا في العيش ولو للحظات قصيرة قبل الانتهاء.
هذه اللحظة تعكس قمة التناقض الإنساني، حيث يكون المرء في أقصى درجات الهلع من الموت، ومع ذلك، يجد نفسه في قمة السلام وهو يتأمل جمال الحياة العابرة.
● «مفارقة السقوط والزهور: دعوة للعيش بعمق»
هذا التناقض العميق الذي طرحته السمان يمكن أن نراه كدعوة لكل منا للنظر بعمق إلى حياتنا. في كل يوم نمرّ بتفاصيل صغيرة قد تبدو غير ذات أهمية، ولكننا لا ندرك قيمتها إلا في اللحظات الحاسمة. الزهور التي أعجِب بها الشخص الساقط من الطابق الخمسين قد تمثل كل ما هو جميل وهش في حياتنا، الأشياء التي قد نعتبرها بديهية، ولكن في الحقيقة هي ما يجعل حياتنا تستحق العيش.
إنه تأكيد على أن الحياة، رغم قصرها أو عدم يقينها، مليئة بلحظات تستحق أن نتوقف عندها ونتأملها. كل زهرة تمثل لحظة فرح، حب، تأمل أو بساطة نعيشها دون أن ندرك قيمتها الحقيقية إلا حين نكون على وشك فقدانها. السقوط في هذا السياق ليس مجرد حركة نحو الموت، بل هو رحلة نحو الإدراك، نحو التعرف على جوهر الحياة.
● «الجمال والوجود المتلازم»
إن ما تقدمه غادة السمان في هذا الوصف ليس مجرد تأمل في فكرة الموت، بل هو تذكير بأهمية العيش الواعي. السقوط نحو الموت يمثل رمزاً قوياً لتلك الرحلة التي نمرّ بها جميعاً في حياتنا، حيث تكون النهاية معروفة ولا مفرّ منها، ولكن الزهور التي أعجِبنا بها على طول الطريق، تمثل تلك اللحظات من السعادة والجمال التي يجب ألا نغفل عنها.
الموت قادم بلا شك، ولكن الجمال دائماً حاضر، وكلما مررنا بتلك اللحظات التي تذكّرنا بزوالنا، قد يكون من الأفضل أن نتوقف للَحظة ونتأمل الزهور، نتذكر أن الحياة مليئة بالتفاصيل الجميلة التي تستحق الاستمتاع بها، حتى ونحن في طريقنا إلى النهاية.