جريمة وعسس- الجزء التاسع
خميس بن محسن البادي
في الجزء السابق تابعنا أحداث الاعتداء السافر والآثم الذي كان ضحيته الزوجين الشابين “همام وهيام” من قبل ثلاثة مجرمين مجهولي الهوية، ورغم النتائج التي تم إحرازها في الواقعة إلا أن مرتكبيها ما زالوا محل بحث من قبل الشرطة..
لا ليس بعد فحتى اللحظة لم يَتَسَنّهْ شيئاً في الأمر، ولا يوجد لديهم مشبوه واحد في هذه الجريمة التي أثارت حفيظة المجتمع الذي يطالب الجهات المعنية سواء في السر أو العلن بسرعة إيجاد هؤلاء الشياطين السفهاء الذين سمحوا لأنفسهم بالتعدي على ما ليس من حقهم، وبطريقة وحشية مستنكرة من كل صاحب فطرة سوية سليمة، وبذلك اتفق طاقم العمل على أن يكون كل من له نشاط إجرامي هو مرتكب لهذه الجريمة حتى يثبت لهم نقيض ظنهم واشتباههم في من تتمحور حوله الظنون والاشتباه في ذلك، ومن هذا المنطلق فإن واقع الحال تحتم عليهم اتخاذ إجراءات معينة نحوهم، وفي الأثناء يستعيد “همام” عافيته ويغادر المشفى ويدلي بإفادته عن الواقعة أمام الشرطة، بينما “هيام” في بيت أهلها تسألهم عن وضعها بينهم ومدى استمرار العلاقة الزوجية بزوجها بعد الذي تعرضت له، فأجمع هنا ذويها على الوقوف بجانبها ودعمها لتتجاوز أزمتها هذه، مؤكدين لها إدراكهم أن ما تعرضت له هو أمر خارج عن رغبتها وإرادتها، بينما خيار التصرف سيكون متروكاً ل”همام” في استمرار العلاقة الزوجية بينهما من عدمها والذي سيتشاورون معه لأجل ذلك لاحقاً، وبينما عمل فريق العمل على تنفيذ ما تقرر في اجتماعه الأخير فقد تم تحديد أهدافهم من بين المشبوهين بمنطقة الاختصاص والذين سيتم ما أسفر عنه الاجتماع بشأنهم لإجراءات يعلمها ويتبعها في العادة رجال الأمن وأصحاب المهن القانونية، وقد اقتصر ذلك مبدئياً لمن هم يقطنون ضمن مكان الاختصاص دون التوسع لما بعد جغرافيته، اعتقاداً مبنياً منهم على أن الجريمة وقعت دون تخطيط مسبق وأنه يندر أن يأتي شخص من مكانٍ بعيد لمجرد احتساء الكحول فقط؛ ولذلك تم تصور الأمر على هذا الظن فصدرت التوجيهات بتنفيذه والعمل به على وجه السرعة من خلال استدعائهم تباعاً، وبينما هم كذلك ففي الجانب الآخر التقى الجمعان من أهل “هيام” مع “همام” وأهله لمعرفة مدى استمرار العلاقة الزوجية بين القرينين الشابين بعد الجريمة النكراء التي تعرضا لها. وهنا لم يكن “همام” وأهله أقل مروءة وشهامة عن أهل “هيام” حين قبلوا بها بينهم؛ فها هو زوجها وأهله ينكرون على أهلها هذا الظن بهم مؤكدين لهم أن “هيام” لا ذنب لها فيما تعرضت له وأنها مرحب بها بينهم مع استمرار العلاقة الزوجية بينها و”همام”، وهذا ما أكده الزوج أيضاً مقرراً عدم تخليه عن المرأة التي وجد فيها الحشمة والعفاف والأخلاق الفاضلة، ومؤكداً لهم الوقوف إلى جانبها، حجته في ذلك هي قناعته الحقة وعلمه المؤكد بأن الفعل الذي تعرضت له كانت مجبرة عليه وأنهما سيمضيان حياتهما معاً كزوجين ومتابعة قضيتهما حتى النهاية، وسيعملان على محاولة تجاوز هذه المحنة المشؤومة، طالباً من الجميع مساعدتهما لتخطيهما هذا المصاب النكر، وانتهى اللقاء بينهم على هذا الود والتفاهم والتسامح وكل منهم يثني على أخلاق الآخر.
إنها الانسانية والمشاعر الطيبة والصفات الحميدة التي يتحلى بها بعض البشر ويتعامل بها مع الآخرين من حولهم.
ومن خلال خطة العمل التي اتبعت في استدعاء المشبوهين؛ فقد نجح فعلاً هذا المسعى وهذا التوجه النير الصائب، ولله الحمد والفضل.. إذاً فهو توفيق الله تعالى للرجال المخلصين، ثم الأفكار الصائبة والجهود التي لا تضيع سدىً. فهكذا يكون عمل المخلصين.
فمن خلال عشرات الأشخاص الذين شملهم الاستدعاء المنشود حتى اللحظة هذه هي أولى المفاجآت وقطف ثمار الإخلاص في العمل والتي أذهلت وحققت نجاحات مبهرة تثبت مدى حقيقة جهود فريق العمل، حيث تم التوصل لأحد الأشرار من المجرمين الثلاثة – تيّم- وذلك من خلال مقارنة إجراءات فنية له مع بعض المحرزات والعينات المتحصل عليها من مخلفات الجريمة باستخدام الطرق العلمية الحديثة والمتبعة في مثل هذه الجرائم، وفي الوقت عينه ما تزال إجراءات استدعاء هذه الفئة لهذا الغرض في تتالي متواصل وهو أمر يتم بصمتٍ تام، ومن جانبه لم يستحث طاقم العمل أمر القبض على المشتبه به المكتشف حتى تتضح أمامهم الرؤى كاملة، فثمة اثنين آخريْن يجري الكشف عنهما بعد، وأن قرار أمر عدم القبض عليه اتخذ بالإجماع لدواعٍ احترازية، فهم يدركون مدى أهميتها ويعمل عليها رئيس الفريق وأعوانه بتأنٍ تام، ولكن في الوقت ذاته وعلى غير بيّنة من هدفهم هذا؛ اتخذت ضده إجراءات قانونية وسرية تمنعه من مغادرة البلاد، و “سهم” على أعصابه فهو أكثر المتحمسين في الكشف عن الجناة، فكان لا يهجع الليل إلا قليلاً ولا ينيخ ركبه بالنهار إلا نزيراً، رغم أنه كان بعيداً عن الأشخاص المشبوهين الذين يتم طلبهم بالحضور، كما يتم التعامل مع الموضوع في هدوء وتكتم لأمور تعود لسرية أعمال فريق العمل، إلا أن “سهم” كان من أوائل من يتلقون النتائج المتعلقة بالجريمة من الفرق المعاونة في فريق العمل؛ بل ربما كان هو همزة الوصل بين طواقم العمل المختلفة لمتابعة النتائج أولاً بأول، كما كان يكتم خبايا وأسرار عمله عن كل من ليس له صلة بذلك حتى لأقرب الأقارب إليه كان لا يطلعهم على أمور عمله، رغم انتمائه لأسرته بشدة- والديه وأخيه “فهم”- هذا على الأرجح لأنهم يعيشون في منزل واحد خاصة أنه وأخيه لم يقترن أيهما بزوجٍ له إلى الآن؛ وبذلك فإن أسرته الوحيدة -والديه وأخيه- هم صندوق أسراره إلا أنه لم يبح لهم بأي من مهام وأسرار عمله، ورغم إلحاح والديهما لهما بالزواج لعلمهما بأهميته في حياة الفرد خاصة وهو في ريعان الشباب لما له من درء الكثير من المفاسد في حياته؛ لكن أيهما لم يقبل بالموافقة على الزواج بعد، وعلى أية حال فإن عدم إفشاء أسرار الوظيفة ميزة تحسب هنا لصالح “سهم” لدى مسئوليه وضميره قبل كل شيء، ولا شك في ذلك، كما يعي هو أهمية الحفاظ على سرية العمل وعدم إفشاء سريتها وإدراكه بتجريم من يقدم على مثل هذه الأفعال، وفي الوقت الذي كانت تتوالى فيه النتائج يتلقفها “سهم” بتلهف شديد طامعاً في أن يصل وباقي زمرة العمل إلى النتائج التي يرجونها من عملهم الدؤوب هذا، لكنه كان يجد فحوى هذه النتائج سلبية؛ مما أطال إلى حد ما أمد الكشف عن الإثنان زميلا “تيّم”، فلم يجد الطاقم إلا القبض على هذا الأخير، الذي فجأة أمسى في قبضة رجال الشرطة البواسل المكلفين بملاحقته وأمثاله. كيف ذلك وطاقم العمل يعد جاهزيته للقبض عليه؟، نعم، إنه وفي الليلة الموعودة التي كان الطاقم على نية القبض على- تيّم- وقبل ساعة الصفر بقليل تلقى رئيسهم بما يفيد عن ضبط أربعة أشخاص بجرم حيازتهم لكمية من المواد المخدرة من خلال كمين نصب لهم، وأعلمه المتحدث إليه أنه تبين لهم بأن أحد الأربعة واسمه- تيّم- مطلوباً لديهم مؤكداً له أنه في قبضتهم رفقة زملاؤه متى ما تطلب الأمر إحالته إليهم؛ وبذلك تم إلغاء عملية مهمة القبض على”تيّم”، وفي الصباح حيث يهم “سهم” بمغادرة مكتبه بنية التوجه إلى حيث يقبع هدفهم المقبوض عليه ورفاقه لاستقصاء بعض الاستفسارات منه؛ إذ يلتقي على باب مكتبه بمن جاءه بمغلف لونه بني وقد دُمِغَ بخاتم السري ذو اللون الأحمر يتجلى من خارجه أن مصدره المعمل الجنائي، فهذا هو يتسلّم المغلف ويقدم على فتحه بتلهف وإذا به أمام إفادة بنتيجة فحص لشخصين، وأول ما أقدم على مطالعته هو خلاصة النتيجة فكانتا من حسن الحظ والطالع أنهما إيجابيتين بما يؤكد الكشف عن الشخصين الآخريْن في قضية “هيام وهمام”، فدقق النظر وأمعنه على إسم صاحب الفحص بالورقة الأولى، فكان “نجم” الذي يجهله “سهم” شخصياً، لكن هو ذاته صديق “فهم” أيام الجامعة والسبب المباشر في زيغ “فهم” هو و “كرم” الذي مات بحادث المركبة، ثم قاده رناه وفضوله دعاه ليطلع على إسم الإفادة الأخرى فلم يصدق ما رآه بل لم يستوعب مطلقاً ما لقاه مرجحاً إما وجود خطأ غير مقصود أو تشابه إسماً لأخاه! إنه “فهم”، نعم، “فهم بن شهم” وشقيق هذا الضابط الشاب “سهم” وابن أمه “نغم”، وهو ثالث المعتدين على شرف “هيام” بعد “نجم” و “تيّم”، فهو بذلك يكون ثالث الثلاثة- إن لم يكن أولهما، ويعني ذلك أيضاً أنهم ذاتهم المعتدين على بعلها “همام”، ورغم ذلك تحقق كثيراً من الإسم والبيانات الخاصة بأخيه ممنياً نفسه أن يكون تشابه في الاسم فقط، ولكن للأسف خابت أمنيته وتبعثرت ظنونه وتلاشت فرحته فقد ثبت صحة تطابق البيانات؛ فانجلت له الحقيقة بالجزم واليقين من غير شك أو تخمين، وإضافة إلى ذلك فقد حوت التقارير في مضمونها وجود متبقيات لآثار بعض أنواع المخدرات لكل منهما؛ ما يؤكد تعاملهما مع المواد المخدرة بالتعاطي وربما الاتجار بها أيضاً، ولا ريب أن ذلك ستتولى متابعته معهما الجهة المختصة؛ وهي قضية أخرى تضاف لهما تكون منفصلة عن قضيتهما الرئيسية هذه.
إذاً “فهم” وهو شقيق الضابط “سهم” الذي يتولى جوانب من أمر القضية متهم بجرم شنيع عقوبته الأدنى عشر سنوات والقصوى خمسة عشرة سنة سجن غير الغرامة والتعويض الماليتين، و”سهم” الذي يعمل ضمن طاقم العمل الموكولة إليه هذه القضية والحريص على التوصل إلى هؤلاء المجرمين والقبض عليهم والذي كان أخيه “فهم” من بينهم، ولكنه يجد نفسه الآن وقد علق في المساحة الضيقة من الموضع الرحب- نعم وجد نفسه عالقاً بعنق الزجاجة-، صلة الدم والرحم الواحد، والواجب الذي أدى قسم اليمين لأجل أدائه بكل أمانة وإخلاص ونزاهة ولمرتين يوم أن تخرج لأول مرة كشرطي والثانية حين منح رتبة ضابط، فجلس بمكتبه لا يدري سبيلاً للخروج من هذا المأزق الذي وجد نفسه في دائرته، وظيفته التي أقسم بأن يكون مخلصاً أميناً في أدائها، وأخيه الذي يجده متهماً أمامه وهو من سيتم على يديه تقديمه إلى القضاء لنيل ما يستحقه من الجزاء نظير ما ارتكبه من جرم آثم وشنيع في حق زوجين ما لهما من ذنب عدا تواجدهما في الزمان والمكان الخطأ آنذاك، وهناك والديهما اللذين يكن لهما ولأخيه كذلك كل الود والاحترام ولا يتوقع نفسه أن يغضب أحدهم يوماً، جلس قرابة ثلاثة أرباع الساعة منفرداً في غرفة المكتب وهو في حيرة من أمره، ورغم أن جهاز التبريد في حال اشتغال وبدرجة تبريد عالية إلا أن جبهته تتصبب عرقاً، وبينما هو كذلك إذ برئيس طاقم العمل يقتطع خلوته ليدخل عليه بشكل مفاجئ لأمرٍ ما فرآه على الحال التي كان عليها، وحين سأله عما ألمّ به قدّم إليه نتيجة الفحص الخاصة بأخيه وزميله وحين طالعها رئيسه سُرّ بذلك موجهاً كلامه ل”سهم” بأن ذلك من دواعي السرور وليس الاكتئاب، لكن “سهم” طلب إليه أن يقرأ إسم صاحب الفحص في الورقة الثانية جيداً ففعل ولم يتضح له شيئاً، عندها أكد له “سهم” بأن “فهم” يكون أخيه إبن أمه وأبيه، فتراجع هذا الضابط عن حماسه وفرحته تقديراً للظروف والأقدار التي أوجدت “سهم” في دائرتها المغلقة هذه، وهو يدرك أن “سهم” كغيره من الضباط الذين يتميزون بالنزاهة والإخلاص في أداء الواجب، وبذلك عرض عليه الخيار بالتنحي واستبداله بضابط آخر إن رغب بذلك تجنباً للإحراج دون أن يمس إخلاصه وما عُرِ ف عنه من الولاء والتفاني شيئاً، ولكن “سهم” طلب مهلة لإبداء رأيه النهائي صباح اليوم التالي؛ فكان له ذلك كما اتفقا بالعمل على سرعة القبض عليهما، وانتهى اللقاء بينهما دون أن يفصح رئيس طاقم العمل عن السبب الذي جاء فيه ل”سهم” من أجله فترك الأمر متعمداً لعلمه بعدم احتمال “سهم” إصر أعمال أخرى لما يمر به من هم نتيجة ما ارتكبه أخيه من جرم يدرك الجميع مدى جسامته وخطورته على الآمنين.
وبعدما يقرب من الساعتين ونصف الساعة. ها هما “نجم” و”فهم” في قبضة الشرطة، وقد سبقهما ثالثهما “تيّم” وكل منهم لم يرى الآخر ولا يعلم عنه شيئاً، وتحامل “سهم” على نفسه وتوجه إلى رئيسه واقترح عليه بأهمية عدم التقائهم ببعض مع سماع ما لديهم عن الجرم المنسوب إليهم والعمل على سرعة صف وتنظيم أوراق القضية في حافظتها وإحالتها والمتهمين إلى السلطة المختصة لإجراءات التحقيق، مؤكداً له بأنه سيرد عليه في اليوم التالي بشأن استمراره معهم أو استبداله بضابط آخر؛ فوافقه على ذلك وحيا فيه حبه لعمله وإخلاصه له، وفي الوقت عينه راقه مقترح “سهم” ووجه بدوره بالعمل به تجنباً لأي تأخير من شأنه أن يبطل إجراءات القضية- لا سمح الله.