تحتفل صحيفة النبأ الإلكترونية بالسنة السادسة لتأسيسها
Adsense
الخواطر

بهجة البسطاء .. أعظم

مريم الجابرية

لوَّحَ بيدهِ تلويحةَ الوداعِ في صباحٍ باكرٍ على أملِ أن يعودَ في وقتٍ آخرَ من اليومِ محمَّلًا بكلِّ حبٍّ، ابتسمت له ابنتُهُ وأرسلت قبلةً في الهواءِ ترافقُهُ في دربِهِ، حملَ على ظهرهِ صرةً ثقيلةً بعضَ الشيءِ ومضى، مشى بينَ مزارعِ النخيلِ، ملقيًا التحيةَ عليها، هبَّت نسمةٌ باردةٌ من الفلجِ ترافقُهُ في الطريقِ. كان يمشي مبتهجًا بالحياةِ، حفظتهُ الدروبُ، يرددُ في داخلهِ آياتٍ قرآنيةً تبعثُ إلى خلدهِ السكينةَ، وأخيرًا وصلَ إلى القربِ من محطةِ سياراتِ الأجرةِ؛ فإذا بأحد يناديه:
– تعالَ إلى هنا يا عمّ طالب، أنا سأوصلُكَ إلى وجهتِكَ.

بكلِّ هدوءِ استقرَّ على كرسيِّ السيارةِ، وسارا إلى الشارعِ المنشودِ، لا يختلفانِ على السعرِ، فهو نفسُهُ منذ عشرينَ عامًا، ريالٌ ونصفٌ حتى سوقِ الخضارِ،
كان يوم الجمعةِ، نزل مستبشرًا بيومٍ واعدٍ، واستقرَّ في مكانِهِ المعهودِ.

بدأت الأصواتُ تتعالى، ما بينَ مسوِّقٍ لبضاعتِهِ ومشترٍ يساومُهُ صباحَ الخيرِ. عمَّ طالبُ: تبدو ثمارُكَ بائسةً اليومَ، انظرْ هناكَ!
أشار بيدهِ إلى الزاويةِ الأخرى حيث يبتهجُ البائعُ الآخرُ ومساعدُهُ في عرضِ محصولِهِمْ بكلِّ تجبُّرٍ، تأملَ ما كان على طاولتِهِ، وأقسمَ في نفسِهِ بأنَّها أطيبُ الثمارِ.
إنَّهُ زرعَ هذه الأرضُ لعقودٍ طويلةٍ، واعتنى بها كما تعتني الأمُّ برضيعِها، يسقيها بأعذبِ ماءٍ ولم يضرها يومًا بتلكَ الأسمدةِ السيئةِ، بل كان يدللُها بأفضلِ الطرقِ، يداهُ تشهدانِ أنَّهُ يقضي جلَّ يومِهِ بينَ الحقولِ، لم يلتفتْ لهُ أحدٌ، رغمَ كلِّ الضجيجِ، لم يزرْهُ زبائنُهُ المعتادونَ اليومَ، لم يسعفْهُ صوتُهُ في النداءِ!
هذا السوقُ قد امتلأَ، ولم يعدْ يراهُ أحدٌ.
جمعَ صرَّتَهُ، وتساقطت على خدِّهِ دموعٌ حارقةٌ، مضى إلى الخارجِ بكلِّ انكسارٍ.

وفجأة إذا به يسمع صوتاً: عمّ طالب، أنا أشتري كلَّ ما لديْكَ!

أعادَ هذا الصوتُ لهُ الحياةَ، أشرقَ وجهُهُ واستقامتْ خطوتُهُ. أخذَ المبلغَ الذي كان مخبَّأً في ظرفٍ، وشكرَ الرجلَ. تنفسَ الصعداءَ، قد حصلَ على قوتِ أسبوعٍ آخرَ، قد ينفقُ جلَّهُ في الطريقِ.
فهناكَ أفواهٌ تنتظرهُ، ووجوهٌ تحتاجُ لابتسامةٍ تعيدُ لها البهجةَ.
عادَ وهو يحملُ صرَّةً أخرى في منتصفِ النهارِ، لم يبالِ بالحرِّ، ولا بأشجارِ النخيلِ المتراقصةِ حولهُ، فقد كان قلبُهُ يرقصُ أكثر.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights