جريمة وعسس – الجزء الثامن
خميس بن محسن البادي
فيما سبق تابعنا استمرار (فهم) في مسار الجريمة، وأن (سهم) عمل في سلك الشرطة وهو على رأس عمله واصل دراسته الجامعية ليتم اختياره بعد ذلك ضابطاً بعد تخرجه في الجامعة ويلتحق بالجهة المختصة بالتصدي للجريمة ومكافحتها طبقاً لتخصصه الدراسي في مجال القانون، ليقترح بدوره تشكيل فريق عمل للكشف عن الجرائم المسجلة والتي فاعلها غير مكتشف، والذي تتم مباركته والموافقة عليه من قِبل رؤسائه، ويكون هو ضمن تشكيلة فريق العمل.
وفي الأيام التي ترتقي فيها (نغم) وبعلها (شهم) منصباً وظيفياً جديداً لكلّ منهما كلّ في موقع عمله، يستولي ابنهما فهم على بعض الأموال المنقولة الخاصة بالشركة التي يعمل بها ويكتشف أمره ويُشتكى عليه لدى الجهات المختصة بجرم جديد يضاف لسجله الجنائي الحافل بعديد الجرائم التي سُجلت ضده حتى الآن، فتتم محاكمته وسجنه لعدم قيامه بتسوية الأمر مع إدارة الشركة، ربما لتصرفه بما استولى عليه من مقتنيات وعدم مقدرته على ردها أو دفع ثمنها، ولا غرابة هنا في أمر التسوية هذا فربما أجاز القانون للمختصين توقيف ملاحقة الجاني بمثل هذا النوع من القضايا متى ما تراضى طرفا النزاع بتسوية الخلاف بينهما، أو ربما ارتأى المختصون إحالته للقضاء لتكرار إجرامه وفقاً لسجله الثابت لدى الجهات المختصة، وحين علم سهم بذلك سارع لنجدة أخيه وسدد قيمة المسروقات للشركة ليصدر الأمر القضائي بإيقاف المدة المتبقية من حبس فهم بعد إجراءات قانونية متبعة في ذلك، وأن ما أقدم عليه سهم نحو أخاه ليس بدافع إقدام فهم على ارتكاب المزيد من الجرائم ولا لأن سهم يمتلك مالاً فائضاً عن حاجته، بل فعل ذلك لأجل والديه أولاً، ولأن فهم أخوه ثانياً، وثالثاً لأن أمر وقف العقوبة السالبة للحرية المقررة عليه مرهونة بسداد ما عليه للشركة من مطالبات، وهو لا شك يروم لأخيه الخير والصلاح والاستقامة وهو ما يأمله ويتمناه سهم أن يكون من فهم، ومن الجانب الآخر غض والداهما الطرف عما فعله فهم بمخالفته الشرط حين قبلا أن يعود للعيش معهم في المنزل دون ارتكابه المزيد من المخالفات، ربما لتجنب المشاحنات أو لأنهما أوهما نفسيهما بأن الفعل الذي ارتكبه فهم لا يتعدى كونه خلاف عمل أمكنه تسويته مع الشركة، خاصة وأن سهم أخفى عنهما موضوع تدخله في حل الخلاف بين فهم والشركة بدفعه قيمة الممتلكات المستولى عليها من قبل فهم، ورغم إنهاء الخلاف بين إدارة الشركة وفهم إلا أنها لم تقبل بفهم حتى يكون أحد العاملين فيها، فتم إنهاء خدماته لديها بتسوية عمالية بمعرفة وتنسيق مسبق مع جهات الاختصاص فانتقل للعمل في شركة أخرى، وخلال هذه الفترة ارتقى سهم سلماً جديداً في موقعه الوظيفي من خلال حصوله على ترقية لرتبة أعلى ليستمر العطاء والبناء، ولكن في المقابل تبقى الجريمة ملازمة لبعض البشر الذين قد تُطَوّع لهم أنفسهم المضيّ في طريقها والسير في مسلكها دون رجعة إلى أن يقدّر الله لهم أمراً مقدوراً.
ففي أولى ساعات الليل من ذات يوم من أواخر أيام الصيف حيث ما يزال المرء ينشد النسمات الباردة والهواء النقي العليل في حالة من بدء اعتدال الطقس بين توديع للفصل القائظ واستقبال للفصل البارد، وعلى رمال البحر الناعمة يستقبل مُفتَرِشها نسمات الهواء المحمّلة بعبق رائحة مياه البحر، وفي لحظات سكون تترنم على الأذن جوقة لـمـُوَيــْجات البحر الهادئة التي تتحطم وتتبعثر وتغوص في الرمال التي لم تمل أو تضجر أو حتى تتذمر يوماً من هذه المياه المالحة التي ما تلبث أن تتخلص من موجة حتى تلحق بها أخرى تستقبلها، هذه الحبيبات الفضية الناعمة بالتتالي رغم أنها ليست دائماً هادئة كما هي الليلة، حيث يراها الرائي لهدوئها وكأنها تحمل أحزان آلاف السنين، وهَمّ عدد ما تحطمت على هذا الشاطئ وذاك الساحل من أمواج، لكن في المقابل هذه الرمال نجدها تستقبل ضيفها القادم منذ أن خلقها الله عز وجل لتكون رفيقة للبحار وشواطئها وصخورها، وهي تتحمل قساوة وغضب طبيعة البحر عليها من حين لآخر من غير امتعاض بل تستأنس بهدوئه وسكينته ونعومة ورقّة موجاته كما عليه حالها هذا المساء، وهي الليلة التي جذبت ثلاثة ضالين عن النهج القويم لتمضية رحلة خلوية شاطئية مفترض أن تكون هادئة كهدوء المكان وسكينته ووداعته وأُنسه ونقائه، فعلى تلكم الرمال كانت مفرشاً للنفوس وكانت الخمرة لهم هي سيدة الجلوس التي مُلئت بها الكــؤوس وسُكِبَتْ في الأفواه فبدأت تعبث ببرمجة الألباب في الرؤوس، وفي هذا الوقت وإلى البقعة التي اتخذتها هذه الفئة الضالة مرتعاً لصخبهم رغم نقاوة المكان وروعته تسوق الأقدار أقدام زوجين نشدا متنفساً خارج المنزل فوجدا شاطئ البحر المكان الذي يمكنهما أن يطلقا سيقانهما والاستمتاع بحياتهما الزوجية الجديدة على رماله البارقة على سنا آية الليل، في الليلة الرابعة عشرة منه، حيث تلك المويجات البحرية التي تصل متثاقلة إلى البر ليلقى بعضها حتفها ويعود بعضها الآخر أدراجه سريعاً متجنبة المصير المحتوم، إنها الطبيعة والقدر والمشيئة الإلهية، فسبحان الذي خلق فسوّى.
هذان الزوجان الشابان النحيلان العنان لأقدامهما تسير فوق هذه الرمال وهما في مرح وفرح يعيشان نشوة الاقتران والحب والحياة المشتركة، وهما اللذان تجاوزت للتو مدة زواجهما الثلاثة أشهر بأيام، سارا يداً بيد تارةً في وضع الهرولة وأخرى بسير الهوينى، وذهاباً كان مرورهما على بُعد خطوات عن الثلاثة الضالين، الذين اشتمت وأزكت أنوفهم شذا العطر النسائي الذي وضعت هيام زخات منه على ملابسها والذي ينم عن جودة علامته التجارية الشهيرة وقد قطعا من المسافة ما قطعا، وإياباً كان مسارهما هو ذاته حيث كانت الكارثة التي كانا يجهلانها بانتظارهما.
فما يقرب من اللترين من الخمر شربوا هؤلاء الثلاثة في جلستهم تلك، ومع نشوة السُّكر وعبير عطر هيام ولما هم عليه من السفاهة وانعدام الأخلاق كانت أسباباً مجتمعة وعوامل مساعدة وظروفاً مؤاتية على اعتراض مسار هيام وزوجها هُمام، فأقدم ثلاثتهم على استيقافهما وطلبوا إلى همام مغادرة المكان وبقاء المرأة معهم، لكن همام ثارت حفيظته غضباً مؤكداً لهم بأنه لا يمكن له أن يترك زوجه معهم ولا يحق لهم طلب ذلك أو حتى التفكير فيه، فتلقى جزاء جنس اعتراضه ضرباً وركلاً، بينما زوجه في حضن أحدهم مجبرة وتحاول جاهدةً الإفلات منه، فهل لها وبعلها من خروج إلى سبيل؟، أسفاً – لا-، حيث لم يتمكنا من الدفاع عن نفسيهما ببنيتيهما النحيلتين مقابل ثلاثة من نفرٍ أوغاد ذوات بنية جسمانية قوية وأخلاق فاضلة حميدة بدرجة صفر امتياز، وبذلك وللأسف والحسرة والندم فقد ضُرب الجسم ورُكل وأُنهك وانهارت قواه، ودُنّس الشرف وهُتِك العرض ولُوّث البدن وانتهك الطهر والعفاف والحياء، فقد تمكن الثلاثة من نيل غرضهم النكر الفاحش القبيح من هيام، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل جردوهما من المقتنيات التي كانت بحوزتهما، وتركوهما يواجهان مصيرهما المحتوم في المكان وهمام يغالبه لجينه بين ابتلاعه وبين لفظه، فيما زوجه هيام مجهدة متقززة مما بها من قاذورات خلّفها فيها الجناة، وكلاهما يندب حظه في مصابهما البشع هذا، ويسوق القدر إليهما سائح أجنبي يستمتع هو الآخر بطبيعة المشهد الخلاب الذي تعكر صفوه بمشاهدته وضع الزوجين الشابين اللذين وجدهما في حال سيئة للغاية فيقوم بدوره وهو الذي يجهل الطرق السريعة التي توصل إلى الجهات التي تعنى بالحالة فيبادر بالاتصال بالنزل الذي أقام فيه أثناء سياحته في البلد، ليتم من هناك إبلاغ الشرطة عن الواقعة والانتقال المباشر للمكان ويتم نقل همام وزوجه إلى المشفى وكان سهم من بين الطاقم الذين كانوا في واجهة الحدث من رجال الشرطة، إذاً ومن جديد ها هم أولئك الرجال أمام تحدٍ فرض نفسه عليهم على الواقع وكأن التاريخ يعيد نفسه لما وقع لشهم ونغم قبل أكثر من ثلاثة عقود مضت، فما أشبه الليلة بالبارحة، وهنا يتوجب التشمير عن ساعد الجد ونبذ أي راحة للنفس أو هدوء للبال حتى ينصف المتضرر ويجبر الضرر إن كان لمثل هذا الضرر أي جبر، وكي يعلم المجتمع أن ثمة من يقوم على أمنه واستقراره، إذاً هم الآن في حالة استنفار ولسان حالهم يقول: لا بدّ من الوصول للجناة بأسرع ما يمكن ليكون لهم العقاب الرادع نظير استباحتهم وتدنيسهم شرف هذه الشابة بفعلتهم المنكرة والمرفوضة رفضاً قاطعاً شرعاً وقانوناً وعرفاً، ولتبقى سمعة ومكانة مؤسستهم الأمنية موثوقٌ بها دوماً وليكون أمر التوصل إليهم والقبض عليهم هو أيضاً بمثابة رسالة جلية لكل من يحاول أن يعبث بأمن وسلامة الوطن والمجتمع، وأن هناك من سيقف ويتصدى لأي عابث يعبث بأمن الوطن والمجتمع وسلامته، إن هم وفقوا في مسعاهم هذا فالأمر حتى اللحظة هو كمن يبحث عن إبرة فُقدت وسط طبقات متكدسة من القش.
وتم تدارس الحادثة من جوانبها المختلفة من خلال اجتماع مصغر عقده القائمون بالكشف عنها ومما تم سماعه من هيام دون همام الذي كانت حالته الصحية لا تسمح له بقول ولو جملة عما تعرضا له، لكن مبدئياً يبدو أنه يكفي ما سمعوه من زوجه لأجل المضي في القيام بواجبهم بحثاً عن الجناة الذين يتأكد من فعلهم هذا أنهم سفهوا أنفسهم وهم على اعتقاد محتمل بأن همام لا يعرف شيئاً عنهم كما هي زوجه على أن يكون سماع ما لديه فيما بعد ريثما تسمح الحالة بذلك، فتم زيارة مكان التدنيس مكان الجرم الكارثي البشع المنفّر بل والمقزز للنفس المجبولة على صِبغة الله، وبعد الاطمئنان على صحة سيئا الحظ المعتدى عليهما، ثمة عينات رفعت ومخلفات حرزت وأقوال رصدت وإفادات طبية صدرت وترجمت وتقنيات فنية استخدمت ومقتنيات مُصَرّفة ضبطت وحفظت ورسومات محتملة نشرت وعممت، وبيانات ومعلومات جمعت وحللت، وبذلك فقد تجلى أن جهوداً بذلت ونتائج مأمول منها أن تكون بالنجاح كللت، ولكن كيف ذلك والجناة ما يزالون أحراراً طلقاء بل وحتى الآن هم من المجهولين؟ فأين هذه النجاحات التي يأملها هؤلاء العسس؟ أم أنهم ألفـَوْا هدفهم؟.