جريمة وعسس -الجزء السادس
خميس بن محسن البادي
في الجزء السابق تابعنا استدال الستار على قضية شهم وزوجه مع المعتدين عليهما بالحكم القضائي الذي صدر بحقهم والتحاق ابنهما فهم بالجامعة ومصاحبته لكرم ونجم وموت كرم.
ومات كرم، وأصيب نجم، صاحبَي فهم، لكن كيف حدث ذلك؟ لقد ركبا مركبة فهم وانطلقا بها لإحضار علب تبغ التدخين وبعض الحاجيات بعد أن نفذ ما بحوزتهما وهما في إحدى سهراتهما الخلوية، وهما في طريق العودة والمركبة بقيادة كرم فقدَ السيطرة على مقودها فانحرفت بهما، ونتيجة السرعة العالية اصطدمت المركبة بأحد أعمدة الإنارة، وتدهورت خارج الشارع، فمات كرم في الحال، وأصيب نجم بإصابة متوسطة، وحضر رجال شرطة المرور والمختصون بتخطيط حوادث السير الذين باشروا أعمالهم في معاينة الحادث والتعامل معه، فتم نقل نجم وجثة كرم إلى المشفى، ومن هناك تم تسليم جثمان الهالك بعد الفحوص الطبية المتبعة، بينما لزم نجم فراش المشفى للعلاج الطبي، وخسر فهم مركبته التي تضررت بأضرار أدت إلى إلغائها من قبل شرطة المرور الذين أخضعوها للفحص الفني وتبيّن لهم عدم صلاحيتها للسير مجدداً.
ولأن نجم وزميله المتوفى اتضح أنهما كانا بحالة سُكر، وهو ما حال دون استفادة فهم من تعويضه عن مركبته رغم شمولية تأمينها، وتداركاً لردة فعل والده عن الحادث أخبره فهم الذي شكك في سلوكيات ابنه، ليؤكد له كذباً بأن الهالك استعار منه المركبة لبضع ساعات فقط وهو يجهل نياته وأسراره الشخصية، عدا عن كونه موظفاً لديهم مع تعامل عابر ونادر بينهما في الحرم الجامعي، وتقبّل الأب العذر وسعى لشراء مركبة قشيبة للابن، وفي الوقت الذي شارف فيه أخاه سهم على إنهاء تعليمه الأساسي، كان فهم يتعثر في دراسته لإهماله واللهاث وراء ملذاته الدنيوية المحرمة، وكان يخفي مستواه هذا عن والديه، ولا يستبين عليه الانحراف الذي اكتسبه من أولئك الزملاء الذين عرفوا كيف يوظفونه لمجونهم، إلى أن تم استدعاء شهم من قبل إدارة الجامعة، حيث اطّلع على مستوى ابنه المتدني الذي قد يؤدي إلى فصله أو امتداد سنوات دراسته، فاستشاط الأب غضباً على الابن الذي طلب مستأذناً إحضاره للمقابلة، وبوصوله تم تأنيبه وتوبيخه، كما تم أيضاً توجيهه ونصحه، ولم يكن من فهم إلا الرضوخ لذلك واعداً والده وأساتذته المحاضرين بالاهتمام بدراسته وتحسين مستواه، وانتهى اللقاء على ذلك الوعد الذي وعدهم فهم به، ويعود نجم لعمله بعد مدة علاجه من الإصابة التي لحقت به من جرّاء الحادث، ولكن ذلك لم يكن عظة له، بل استمر على ما كان عليه رفقة فهم وأصحاب آخرين.
من جانب آخر، ورغم المشاغل والمسؤوليات التي أضحت تتزايد على عاتق نغم إلا أنها لم تدع حائلاً أمامها دون مواصلة الكتابة وطرح الإصدارات الثقافية الجديدة بين وقت وآخر، وكانت حريصة على تدشين إصداراتها بما يجعل المجتمع والقارئ والمهتم بالجوانب الثقافية على اطّلاع بإنتاجها الفكري ذاك، إضافة إلى مشاركاتها في المعارض الثقافية التي تُقام هنا وهناك، وكذلك حال شهم ما يزال في موقعه الوظيفي مخلصاً في عمله، أميناً مواظباً عليه وعلى تأديته بإخلاص، يخدم بلده ومجتمعه كغيره من موظفي القطاعات العامة وحتى الخاصة في البلاد، وحينما أنهى سهم تعليمه الأساسي طلب إلى والديه موافقتهما على تلبية طلبه لهما بالتحاقه بسلك الشرطة دون رغبته بمواصلة تعليمه الجامعي في الوقت الراهن، فحاولا ثنيه عن هذا الأمر لأهمية إتمام تعليمه العالي، لا سيما وأن درجاته تؤهله لذلك، لكنه تمسّك برغبته وحبّه للعمل الشرطيّ، فلم يجدا أمامهما إلا الموافقة على مطلبه ومباركتهما له لتوجهه هذا، فقدم أوراقه بطلبه للالتحاق بالعمل في سلك الشرطة، وتم استلام الطلب ودراسته وضمه مع مجموعة الطلبات المماثلة تمهيداً وانتظاراً لاستدعاء أصحابها لاحقاً لإجراءات تجنيدهم، وما هي إلا بضعة أسابيع قلائل ويتم استدعاء المجموعة ممن تقدموا بطلب العمل في سلك الشرطة للاختبار المقرر والفحص الطبي الذي يتم عادة بمعرفة مختصين، وقد كان سهم من بين هذه المجموعة.
وبينما لم تؤتِ النصائح والتوجيهات والتأنيب أكُلها قِبل فهم، بل تبع هوى النفس وطريق الغواية، وأصبحت حاجته للمال تتزايد، ومع هذا الأمر وتجنباً من اكتشاف والديه له فيما لو أخذ يطلب منهما المال بوتيرة متزايدة، لم يجد أمامه إلا أن ينتهج منهجاً جديداً، إنها الجريمة، حيث أوعز إليه أصحابه إلى أن تهريب بعض الممنوعات تدرّ الدخل الذي يساعدهم على تواجد المال بصفة مستمرة في جيوبهم، فأقدموا على تهريب تبغ التدخين وبكميات بسيطة تجنباً من اكتشاف أمرهم، ولكن بعد نجاحه بضع مرات من تهريب بعض الكميات القليلة أعجبته فهم هذه التجارة بمشاركة أصحابه له التي قاموا بها معاً لمرات، ومرات أُخَر بمفرده، فأقبل على ذلك بطمع وجشع غير مبالٍ باحترام النظام والقانون، مفرّطاً بأمن وطنه ومجتمعه، وها هو ذا يشحن مركبته بكمية كبيرة وقد أحكم تخبئتها بين التجاويف الموجودة بها، وجاء يقودها بحمولتها إلى المنفذ البري منذ الصباح الباكر مخترقاً ركام السديم على الطريق، يرافقه أحد رفاق السوء الذين أغووه بهذا المسلك، لكنه ورفيقه هذه المرة لم يفلتا من قبضة الشرطة الذين حملوا على عاتقهم أمن الوطن والمواطن، فقد تم استيقافهما في المنفذ من قِبل شرطة الجمارك، وتم معاينة المركبة والتدقيق في تفتيشها كغيرها من المركبات العابرة، فاكتشفوا وجود الممنوعات في المركبة التي تم تخبئتها بطريقة مُحكمة بحيث يصعب اكتشافها من خلال نظرة سريعة على المركبة، لو لا اليقظة الأمنية ودقة التفتيش الذي قاموا به، وفي اليوم الذي أصبح فيه فهم في قبضة العدالة لِما ارتكبه من جُرم، يتم استدعاء أخيه سهم لإرساله إلى مركز التدريب العسكري الذي تمت الموافقة على انضمامه إلى سلك الشرطة مع مجموعة من أقرانه، فتم نقل هذه الأعداد من الملتحقين الجدد لسلك الشرطة إلى حيث سيتلقون تدريبهم وتدريسهم العلوم والمهارات العسكرية والقانونية بمدرسة التدريب العسكري بصفتها الجهة المعنية في هذا الجانب، فانضم سهم ومجموعته في التدريب بعد تسلمهم اللوازم العسكرية المقررة لكل منهم التي توفرت لهم من قبل جهة التدريب، فيما واجه فهم وصاحبه عاقبة جريمتهما بعد أن تقرر إحالة قضيتهما إلى القضاء، فتم تغريمهما بمبلغ من المال، وسجن مؤقت لم يتعدى الشهر بعد الأمر بوقف باقي العقوبة ربما تقديراً لظروفهما كون الأول طالب جامعي وهو الذي التمس ذلك من القاضي الذي قد يكون تعاطف مع الشروحات التي ساقها فهم ليرأف به القاضي بدوره، وكان ذلك كفيلاً بمنحه إنذاراً نهائياً من قبل الجامعة، وإلا واجه الفصل إن هو لم يستقم، بينما والداه امتعضا من تصرفاته بعد علمهما بفعلته وقد أنذراه هما الآخران عن تكرار مثل هذه الأفعال، وأنهما لن يسألا عنه مستقبلاً، ولن يكون له موطئ قدم لديهما. والتزم مبدئياً بدراسته وتجنب حتى الآن ارتكاب المخالفات، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، فهو اعتاد مع رفاقه على الإنفاق على الأنس الماجن الصاخب وملذاته المحرمة، وبذلك فهو بحاجة إلى المزيد من المال، وأن ما يتقاضاه من والديه كمصروف شهري أمسى لا يساوي مصروف ليلة واحدة من ليالي سهره التي هو عليها مع رفاقه، وبالرغم من أن أخاه أصبح يعمل، ولديه دخل شهري، إلا أنه ملّ وضجر هو الآخر من طلبات فهم للمال منه، فأخذ يسوق له العذر تلو الآخر بعدم إمكانيته لأن يعطيه المزيد من المال، بحجة أن المصروف لا يكفيه، وأنه ما يزال في فترة التدريب، وهو أيضاً بحاجة لأن يوفر بعض المال لنفسه، إضافة إلى مصروفاته الشخصية، وبهذا قتر في الإنفاق عليه، فوجد ذلك أيضاً لا يفي بمتطلباته، ولهذا لم يجد أمامه إلا العودة إلى الجريمة.