الأخلاق بين الأصالة والاكتساب
ميّاء الصوّافية
نرى الكثير من الثوابت الأصيلة في الأخلاق التي نشأ عليها الإنسان، ورسختها فيه الفطرة التي جبله الله تعالى عليها وسهّلتها له البيئة التي عاش واستقر فيها لتظهر في نفسه، وفي سلوكه.
نرى أنَّ هذه الثوابت الأصيلة هي من الفطرة التي فطر الله تعالى عليها الإنسان، وإن منبتها الأساس هو الفطرة، وأن الدين هذّبها، وأعاد صياغتها، ومما يدل على ذلك ما قاله الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}( الروم /٣٠) وهناك مواقف عملية تدلّ على أن الأخلاق الحسنة طبيعتها من فطرة الإنسان التي خلقه الله تعالى عليها؛ فهذا أبو بكر (رضي الله عنه) لم يشرب الخمر قطّ، ولمّا سُئِل: بمَ كان يتجنبها في الجاهلية؟ فقال: “كنت أصون عِرضي وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيّعاً في عقله ومروءته”.
إن الأخلاق الأصيلة المتأصلة في النفس والفطرة هي الأساس في تكوين الجماعات الفاضلة؛ فالأنبياء هم قادة الأخلاق ورُسلها، وهم الذين إذا ما اتّبعناهم سنسير على النهج الصحيح لحياتنا، وستلتئم الفجوات الاجتماعية لمشاكلنا، وإن المجتمعات التي ترسّخ مبادىء الأخلاق الأصيلة في أبنائها ستسير بنفسها في مدارج النموّ، وستزدهر ازدهاراً عظيماً في جميع النواحي، وبلا شكّ ستتأثر بها المجتمعات القريبة منها، وستحظى بالخير الوفير لصالح رعاياها وموطنها ومواطنيها.
إن الخُلق الأصيل عرّفه بعضهم على أنه: صفة في النفس تظهر طبيعتها في كلام الإنسان، وفي سلوكه العمليّ، ومظهره الخارجيّ والصحبة التي اختارها.
وأما التخلُّق بأصول الأخلاق فهو شيء حثّ عليه نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، ليتعوّد الإنسان عليه، ويُكثر منه ليرسّخه في نفسه، قال صلى الله عليه وسلم: “إنما العلم بالتعلّم، وإنما الحِلم بالتحلّم، ومن يتحرّ الخير يُعطه، ومن يتّقِ الشرّ يوقَه” رواه الطبراني.
إن أصول الأخلاق الحسنة وإن كان منبثقها الفطرة السويّة، فإن التنشئة الاجتماعية والإنسانية والدين تعززها؛ وتغدو أصولاً متجذّرة بمقياس تجذّر أصول المجتمع، وبمقدار التمسُّك بالدّين، والقيَم الإنسانية، فتصبح جملة من السلوكيات الإيجابية، وإن التقيّد بها نوعٌ من الفضائل، ومكارم الأخلاق، وإنّ البُعد عن أصول الأخلاق تقترب بالسلوك الإنسانيّ إلى السلبية التي تؤثّر على البناء المجتمعيّ، وتهوي به إلى مهاوي الهلاك.
لكن أصول الأخلاق هذه في بيئةٍ ما، ومجتمع نشأ فيه الإنسان، ربما تتأثر بها بعض المجتمعات ذات الصلة بهذه البيئة، وهذا التأثر لا يأتِ كالأصل الحقيقي، وإنما يخامره التخلّي عن بعض الصفات الحقيقية، أو ماهيّتها، فنحن مثلاً كمجتمعات عربية وإسلامية لنا ثوابت قيَمية، لكن البعض لا يأخذها كحقيقتها، وكجذورها الثابتة، وإنما تراه يطبقها بملبوس غريب، ويداخلها بأفكار غريبة، أو غير مألوفة لطبيعة الهوية، وهذا مما لا شك فيه يكون له نتائجه الحاضرة والمستقبلية التي تؤثر على البنية المجتمعية والاجتماعية، ويعتبر بداية -ربما – للانسلاخ عن القيم الثابتة؛ فمثلاً نرى ذلك في إهمال اللغة العربية الأمّ، وعدم إعطائها النهم الحقيقي من الاهتمام، وكذلك الزيّ العربي الرسميّ لأي دولة عربية إسلامية؛ فكل دولة وإن كان لها ثوابت الزيّ الإسلامي العربي لكنّنا نرى تمازج ملامح الهوية مع هذه الثوابت، فربما هذه الثوابت تضيع شيئاً فشيئاً، وكذلك دينماكية الأصالة، فيصبح بعض الأفراد كأنهم مقلدون للأصل وليسوا على ثوابته؛ فيتغير شيء من اللمحة العامة، والفضاء المتّسع للهوية، فينشأ جيل يشبّ على شبه أصول، وليس على الأصول الحقيقية، وفي المقابل هناك فئة تتربى على الثوابت، فتصبح كأنها هي مَعْلَم المجتمع، وذهبه الأصيل، وركيزته، وينطبق عليه المثل القائل:”الأصل الطيب ذهب لا يصدأ”.
بعض الأسر لا تنشىء أبناءها على الأصول الأخلاقية والمجتمعية السليمة فينشأ جيل تتخبطه المسالك ودروب الغواية، وربما يكتسبها، ولكن على غير أساسها، ومنبثقها الصحيح؛ فتغزو فكره أفكارٌ ضالّة، وإن بدأت كأنها من المظهر العامّ للأخلاق لكنها ليست على ركائزها الصحيحة تماماً، أو أنها صحيحة لكنها لا تتبع الهوية في شيء، فتتقلص في نفسه حجم الوطنية، خاصة لمن تخلوا عن هويتهم إلى هوية أخرى، أيْ تجنّسوا بجنسية قوم آخرين.
هناك مثَل يقول “لا تسقط التفاحة بعيدة عن الشجرة” أي ما يزال الإنسان الذي تتجاذبه جنسيتان قريباً من أصله، من منبته، من أصول أخلاقه وهويته مثلما التفاحة قريبة من أصلها؛ فتكون لُحمته مع الأصل الجديد لُحمة مكتسبة، وليست أصيلة، ويكون الانتماء للوطن الجديد ضعيفاً.
كلما كان الإنسان طيّباً في أخلاقه، متأصلاً به، كان أثره على الغير كبيراً؛ لأن ملامح أصوله تظهر عليه كما يقول المثَل “الأصل الطيب غلّاب” ونرى صاحب الأصل كأنه يلبس ثوب آبائه مع استمرار تجدد هذا الثوب بما يلائم قضايا الأصالة والمعاصَرة؛ فينشأ مجتمع ذو لُحمة متماسكة متجذرة في الأصول.
وإذا ما نظرنا إلى البعض ممَن هاجر إلى أقطار تختلف عن هويتهم وأصولهم، نجد البعض منهم ما زالت هويتهم متجذرة فيهم، وهم إن انحازوا إلى الوجهة التي هاجروا إليها فيكون انحيازهم بمقدار ما يعينهم على التعائش والتماشي مع البيئة الجديدة التي حكمت الظروف أن يعيشوا فيها، ولكن في المقابل، نجد البعض ينسلخون تماماً عن أصولهم.
إن من يتبع الأصول الملتحمة بجذور دينه وهويته يكون أكثر وعياً بدوره في خدمة وطنه وأمّته ودِينه، وعلى النقيض من ذلك، من يكتسب أصولاً لا تنتمي إليه، ولا ينتمي إليها، لا يكون له دور صحيح، ووجهة صحيحة في خدمة مجتمعه، نستثني من ذلك إن أخذ منها ما يعدّل من حياته لتسير بالمنظور الصحيح.