تحتفل صحيفة النبأ الإلكترونية بالسنة السادسة لتأسيسها
Adsense
مقالات صحفية

عظيم الأثر واعترافاً بالفضل والجميل

  ماجد بن محمد بن ناصر الوهيبي

تتراءى لنا صُورٌ من الماضي بما يحمله لنا من عبقٍ عتيق وجودة مفعمة بالأصالة لها طابع خاص، يستشعره من عاش فيه وعاصره بكل حلوهِ ومرِّهِ، ذكريات تعتصرها القلوب وقصص ترسخت في الأذهان، ترويها الأجيال وتتناقلها جيلاً بعد جيل، ووجوهٌ غابت بشخوصها ولم تغب عن القلوب، بل تركت لنا عظيم الأثر، فمَن مِنّا لم يفقد عزيزاً ضمّه اللحد، غاب شخصه ولم يغب أثره، هكذا هي سنّة الحياة، فهذا مفقود وآخَر مولود، بين قادم ومودّع، تختلف فقط كيفية القدوم والرحيل في خضمّ هذه الحياه التي نأخذ منها العِبَر والعِظات، ففيها الأحزان والمسرات، ولكننا لا نعلم ما تخفيه لنا الأيام.

نمضي نواكب هذه الحياة ونستمر في العطاء، فالعاقل والحكيم من يواصل سيره، وإذا وقع أو تعثّر فإنه يستجمع قواه لينهض من جديد، ويتعلم من وقوعه وتعثره كي يتجنبه ثانيةً، فليس العيب أن تتعثر أو تقع، ولكن العيب أن تستمر في التعثر والوقوع، فالحياة مدرسة أساسها الكفاح، وبالرغمِ من مرارة فراق والدي وحزني عليه، وقد قصم ظهري هذا الفراق، وأودى بنور بصري، إلا أن أعماله تحدثت عنه بعد وفاته رحمه الله، واعتذر لنا كُل من رماهُ بسوء الظن، ولم يتعامل معه إلا من خلال تلقُّف الكلام من هنا وهناك ليأتي بعد ذلك باكياً معتذراً وما أكثرهم، لكنه عاشَ كريماً وصابراً، ومات عظيماً محتسباً لم تزعزعه الزعازع، إبّان تلك الفترة من الزمن، عُرفَ بابتسامته التي لم يبخل بها يوماً على أحد، عاش في كنف والديه هو وأخته الوحيدة بعد موت جميع إخوته وأخواته، كان والده ملاذ الفقراء والمساكين والمحتاجين، وكان يجود بما في يده، وكان يقصده القاصي والداني وقد بلغت شهرته الآفاق في البذل والعطاء والإنفاق. والحديث عنه ذو شجون ولا تكفيه هذه الأسطر القليلة لتحوي مناقبه وتضحياته، كما لا يتسع المقام أيضاً لذِكر مناقب أمّه العظيمة، فقد كانت كريمة محتسبة صابرة، فهي الأخرى لا تقل شأناً عن زوجها، فقد سارا على نفس النهج والخطى، عليهما من الله شآبيب الرحمة والرضوان.

تميزت شخصيته بالوضوح والصراحة المطلقة، فلم يكن يعرف للنفاق طريقاً، ولا تأخذه في الله لومة لائم، سار على خُطى والديه هو وأخته التي سلكت نفس الخطى وبقيت على العهد وفية رضية. تكشفت وظهرت لنا الكثير من الحقائق بعد وفاته، كان لاينسى فضل الله عليه ثم فضل والديه، تعلّمنا منه الصبر والإيثار والبذل والعطاء، فغرس فينا هذه الخصال، وحثنا على التمسك بالقيم والمبادئ والتحلي بالفضائل وتجنب الرذائل، وكان يشدد علينا بعدم الخوض في أحاديث النفاق تجملاً بالأخلاق ونبذاً للخلاف والشقاق، وكان يدعو دوماً إلى الحفاظ على أوقات الصلوات، وكان يحرص على الأذان في المساجد أيما حرص، فلا تراه إلا متردداً على المساجد وإن لم يكن هنالك وقت للصلوات، هذا ماغرسه والداه فيه فغرسه فينا، ولعظيمِ أثره واعترافاً له منّي بالفضل والجميل، ووصلاً له بالبر ووفاءً بالعهد ها أنا ذا أخط في حقه هذه الأسطر القليلة التي لا توفيه حقه أبداً، سيراً على خطاه ونهجه، فهو لم يترك لنا شيئاً نفعله، حيث خرج من هذه الحياة الدنيا ولم يترك ديوناً، فقد أدى جميع الفروض، بل وحجّ عن والديه وعن أقاربه، وكان المصحف لايفارقه، صدق الله فصدّقه الله، توفّاه الله في يوم الجمعة حيث كان يبكر للصلاة من يوم الجمعة، ويكون أول الواصلين إلى الجامع، حتى وهو على فراش المرض كان يدعو الله تعالى ويجمع كفيه أثناء الدعاء وكان أكثر دعائه (اللهم اجعلنا في الفردوس الأعلى)، وكان يدعوا لغيره أيضاً بهذا الدعاء، ذكر لي وهو في المشفى عن مرضه قائلاً: هذه سكرات الموت.

كما كان يذكر هذه العبارة لزائريه وأوصاني بإقامة العزاء في المسجد الذي بقرب منزلي وهو مسجد أنس بن مالك، وكانت هي وصيته الوحيدة والأخيرة قبل موته، رحمه الله وجمعنا به في الفردوس الأعلى، اللهم ارحم من مات من آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وأزواجنا وذريانتا وجميع أحبابنا يارب العالمين. اللهم اجعلنا ممن سار واقتدى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ختاماً، برّاً بوالدي وكذلك برّاً بوالدتي التي توفيت بعده بعامين فقط، لن يجف قلمي ولن يتوقف لساني عن ذكرهما والدعاء لهما له حتى وإن كُفّ بصري حتى ألقى ربي، وقد أجرى الله على لساني هذه الأبيات القلائل في حقهما رحمهما الله وغفر لهما وجمعني بهما في الفردوس الأعلى، آمين.

فقلتُ في والدي أولًا :

ألا يا أبي ياعظيم المقام
ذرفتُ الدموع مراراً سجام
ألا يا أبي أين حلوُ الكلام
وأين الخروجُ معاً يا هُمام
ألا يا أبي أنتَ رمز العطاء
إليك الدموعُ عليك السلام
بذلتَ المزيدَ دفنتَ الغِراس
حصدتَ الأجورَ تركتَ الحطام

ثم قلت في حق والدتي:

حينما يهوي وطنٌ بأكمله
وتغيبُ ملامحهُ في التراب

أمي كنتِ لي وطنٌ وسكن
فمن يواسيني إذا ما الحبُ غاب.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights