التفكير الجمعي وبناء الهوية الوطنية
خميس البلوشي
في كل مجتمع من المجتمعات البشرية وأطيافها الأيديولوجية وتفكيرها المختلف، يتجلى التفكير الجمعي كقوة هائلة تشكل مسارات الحياة اليومية، وتحدد ملامح الهوية الوطنية. إن التفكير الجمعي، أو الوعي الجماعي، يعبر عن مجموعة القيم والمعتقدات والعادات التي يشترك فيها أفراد ذلك المجتمع، والتي تُبنى عبر الزمن من خلال التجارب المشتركة والتعليم والتفاعل الاجتماعي.
فالجذور التاريخية للتفكير الجمعي قديمة الأزل، حيث أن التفكير الجمعي ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمات تاريخية وثقافية تتوارثها الأجيال. تبدأ هذه التراكمات من الأحداث التاريخية الكبرى التي شهدتها تلك المجتمعات، مثل الحروب، الثورات، والتحولات الاجتماعية والاقتصادية. فهذه الأحداث تُسهم في تشكيل الوعي الجمعي للأمة من تلك الشعوب القاطنة لتلك البقع الجغرافية، وتغرس في نفوس أفرادها إحساسًا مشتركًا بالانتماء والتضامن.
ويبرز دور الإعلام والتعليم في بناء ذلك النوع من التفكير وغرسه في نفوس أفراد المجتمعات، بحيث لا يمكن إغفال دور وسائل الإعلام ودور التعليم في صياغة التفكير الجمعي وبناء الهوية الوطنية. فلإعلام، بدوره، يلعب دورًا حاسمًا في توجيه الرأي العام ونشر القيم الوطنية من خلال برامجه ومحتوياته. والمناهج التعليمية التي تتضمن دراسة التاريخ الوطني، اللغة، والأدب المحلي، تساهم بشكل كبير في تعزيز الهوية الوطنية.
وفي وقتنا الحاضر تتجلي العديد من التحديات المعاصرة، وفي ظهور عصر العولمة والتكنولوجيا الحديثة، يواجه التفكير الجمعي تحديات كبيرة. فالتدفق الحر للمعلومات، وتعدد المصادر الثقافية والإعلامية، يُحدثان تباينات في الرؤى والأفكار؛ مما قد يؤدي إلى تشتت الهوية الوطنية، وهنا يأتي دور المفكرين والقادة، ومهمة القادة التربويين في توجيه هذا التدفق بما يخدم مصلحة الوطن، ويعزز من قيمه الأصيلة.
وتُعتبر الهوية الوطنية بمثابة العمود الفقري لوحدة المجتمع؛ فهي تجمع بين أفراده في إطار من القيم المشتركة والتطلعات الواحدة. ومن خلال التفكير الجمعي، يتم تعزيز الروابط الاجتماعية وتقوية النسيج الوطني، مما يُمكّن المجتمع من مواجهة التحديات والأزمات بروح التضامن والتآزر.
ويمكن القول إن التفكير الجمعي هو مرآة تعكس روح المجتمعات وقيمها، وهو أساس بناء الهوية الوطنية القوية والمتماسكة. فكما قال الفيلسوف الصيني لاوتزه: ” أمة بدون تاريخ هي أمة بلا ذاكرة، وأمة بلا ذاكرة هي أمة بلا هوية “.
فيجب علينا أن نحافظ على ذاكرتنا الجمعية ونعمل على نقلها للأجيال القادمة، كي تبقى هويتنا الوطنية حية ونابضة بالحياة.