تحتفل صحيفة النبأ الإلكترونية بالسنة السادسة لتأسيسها
Adsense
مقالات صحفية

العصا وتربية النشء

خميس البلوشي

تُعتبر التربية من أهم الأدوار التي يضطّلع بها الأهل في حياة أبنائهم. فهي ليست مجرد عملية تلقينية، وإنما هي بناءٌ لعقولٍ وأرواح قادرة على مواجهة تحديات الحياة وصعوباتها. ومن الأدوات التي استُخدمت في التربية قديماً “العصا”، التي ترمز إلى السلطة والانضباط. ورغم أن استخدام العصا في التربية قد تراجع في العصر الحديث، إلا أن المفاهيم الفلسفية الكامنة وراءها ما تزال ذات صلة عميقة بتربية النشء.

فالعصا كرمز للانضباط والتوجيه، العصا في الثقافة العربية القديمة لم تكن مجرد أداة للعقاب البدني، بل كانت رمزاً للانضباط والتوجيه. كان الأب أو المعلم يحمل العصا ليس لتخويف الطفل أو الطالب، بل لتذكيره بضرورة الالتزام بالقواعد والقيَم الأخلاقية. هذا التوجيه كان يُعتبر جزءاً من عملية تربيةٍ شاملة تهدف إلى إعداد الطفل لمواجهة مصاعب الحياة بقوة وثبات.

ولنرجع قليلاً لفلسفة حياة الأطفال وتربيتهم، فالتربية الحقيقية تتجاوز مجرد تقديم التعليم الأكاديمي والتدريسي حتى لدى الكتاتيب؛ فهي تشمل غرس القيم الأخلاقية والاجتماعية التي يحتاجها الطفل أو طالب العلم، ليصبح فرداً مسؤولاً في المجتمع. ومن الفلاسفة الذين تناولوا هذا الموضوع كان ابن خلدون، الذي قال: “التعليم لا يكون إلّا بالتأديب”، مشيراً إلى أن التعليم والتربية يتطلبان نوعاً من الحزم والجدية.

وهناك العديد من صعوبات الحياة وتحدياتها التي تواجهنا كمجتمعات، وعلى وجه الخصوص المجتمعات العربية والإسلامية، – والمقام لا يتسع لذكرها – فالحياة مليئة بالتحديات التي تتطلب من الإنسان قوةً وصبراً. وهنا تأتي أهمية التربية الصارمة التي تهدف إلى إعداد جيل من الأطفال أو الطلبة المحملين بالمسؤوليات لمواجهة تلك التحديات والصعوبات بشجاعة. فالعصا، وإن كانت رمزاً قديماً، إلا أنها تعكس ضرورة وجود نظام تربويّ يحثّ الطفل على التحلّي بالصبر والانضباط.

ومن الأمثلة في حياة العرب قديماً، في التراث العربي، نجد العديد من الأمثلة التي تبرز دور العصا في التربية. كان العرب يحرصون على تربية أبنائهم على الفروسية والشجاعة منذ الصغر، حيث كان الأب يرافق ابنه في الرحلات الصحراوية القاسية لتعليمه الصبر والتحمل. وكانوا يقولون: “العصا لمن عصى”، ففيها إشارة إلى ضرورة التأديب لتحقيق الانضباط.

فمن الحكمة، أن التربية ليست مجرد توجيه وإنما هي فن يحتاج إلى توازن بين الحزم واللين. قال شاعرنا العربي “المتنبي”:
لا تَحسَبَنَّ المَجدَ تَمراً أَنتَ آكِلُهُ لن تَبلُغَ المَجدَ حَتّى تَلعَقَ الصَّبِرا
هذا البيت يلخص الحكمة البالغة في التربية؛ فالمجد لا يُنال بسهولة، بل يحتاج إلى صبر وجهد.

وقد أدرك العرب أهمية التوجيه والإرشاد في التربية، وعبّروا عن ذلك بالأمثال الشعبية، يقول المثل العربي:
العلم في الصغر، كالنقش على الحجر”.
وهذا المثل يعكس أهمية التربية منذ الصغر، وأن التوجيه السليم يظل راسخاً في نفس الإنسان كما يبقى النقش على الحجر.
وتُعدّ قصص لقمان الحكيم من أبرز الأمثلة على التربية الحكيمة. كان لقمان يستخدم الحكمة في توجيه ابنه، ولم يكن يعتمد على العقاب الجسديّ، بل على النصح والإرشاد. قال لقمان لابنه: “يا بني، إنما مثل العالم مثل الشجرة، إن ترْكتها تنبت كما شاءت عذبتك، وإن عالجتها بالشجر انتفعت بظلها وثمرها”.

فأما دور العصا في التربية الحديثة، فيرجع دورها في العصر الحديث إلى أنها تحولت أساليب التربية من الاعتماد على العصا كأداة للعقاب إلى استخدام تقنيات تربوية أكثر حداثة وإنسانية. يُشجع الأهل والمربون اليوم على استخدام الحوار، التحفيز الإيجابي، والتوجيه بالحب والتفاهم بدلاً من العقاب البدني. هذا التحول لا يعني أن أهمية الانضباط قد تلاشت، بل تم تطوير طرق جديدة لتعزيزه دون الحاجة إلى العنف.

فهناك توازن بين الحزم واللين، ويكمن السر في التربية الناجحة في التوازن بين الحزم واللين. ويجب أن يشعر الأطفال أو الطلبة في مدارسنا بالأمان والمحبة في محيطهم العائلي، ولكن يجب أيضاً أن يتعلموا احترام القواعد وتحمُّل المسؤوليات. هذه المعادلة تساهم في بناء شخصية متوازنة قادرة على مواجهة تحديات الحياة بنجاح.
فالعصا، وإن كانت قد فقدت بريقها كأداة تربوية، إلا أنها تظل رمزاً للحزم والانضباط في عملية تربية النشء. إن التربية الحقيقية تتطلب التوجيه الحكيم الذي يجمع بين الحب والحزم، ليتمكن الأطفال أو الطلبة من مواجهة تحديات الحياة بقوة وثبات. التربية هي أساس بناء مجتمع قوي ومستقبل مشرق، وهي مسؤولية عظيمة تقع على عاتق الأهل والمربين في كل زمان ومكان.

والعصا، برمزيتها العميقة، تمثل التوجيه والانضباط في حياة الإنسان. التحديات والصعوبات هي جزء لا يتجزأ من هذه الحياة، والتربية السليمة التي تجمع بين القوة والحكمة تُمكن الإنسان من مواجهتها بصلابة وحكمة. يجب أن نتعلم من تجارب الأجداد ونستفيد من حكمتهم في تربية أبنائنا، لضمان جيل قوي قادر على تحمل مسؤولياته وتحديات الحياة.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights