مرحا بذي الحجة.. وبُعدا لهذه العادة
سعيد بن سالم الغداني
الذكريات والأحداث الجميلة في حياتنا على مدى السنين، تأبى أن تفارق وتغيب عن أذهاننا، فصداها لا يزال عالقا في أعماق النفس والوجدان، بالرغم من أننا نعيش عصرا تغلغلت فيه المدنية، وبلغت فيه ذروتها من التقدم والتطور، ورغد في العيش، حَضَرًا وَبَدْوًا، فضلا عن الطفرة الهائلة في عالم المعرفة والفكر.
إنَّ من الذكريات القديمة التي أبت أن تختفي من ذاكرتي، رغم مضي أكثر من 40 عاما عن أحداثها، ذكرى حدثت لي أيام الدراسة، وأنا في باكورة العمر، ونعومة الأظفار مع مجموعة من زملائي الطلاب؛ إذ دخل علينا ذات يوم معلم التربية الإسلامية، وشرع يشرح الحديث النبوي المقرر علينا في المنهج، وهو قول الرسول صل الله عليه وسلم:” عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البِرِّ، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتبَ عند الله صِدِّيقا، وإياكم والكذبَ فإنه يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتبَ عند الله كذابا)- رواه ابن مسعود.
والغريب في الأمر أننا تفاجأنا من المعلم أثناء شرحه! حيث كان متحمسا وجادا على غير العادة، ولم يكتف بتأدية دوره كمعلم يؤدي مهمته مع طلابه فحسب، بل زاد على ذلك؛ فوجدناه يتقمص دور الأب في توجيه ونصح أبنائه، ودور الواعظ الديني الذي يلقى محاضراته لعامة الناس؛ لما لهذا الأمر الجلل من أهمية كبرى في حياة البشر، وبصفتنا طلابا تفاعلنا مع معلمنا إلى حد أحسسنا فيه أننا المخاطبون والمعنون بهذا الأمر، وما علينا إلَّا الامتثال والطاعة بنصِّ الحديث النبوي الشريف.
فإذا كان هذا الحديث النبوي الشريف والذي جاء به الرسول الكريم بسبب حادثة ما وقعت في عهده، فإن القاعدة الشرعية تقول:” العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”.
وبعد أن حصلت على قسط يسير من التعليم وخرجت لسوق العمل، ونلت شرف خدمة وطني ولله الحمد، وتقدم بي العمر، ضل هذا الحديث الشريف يلازمني وأجعله نصب عيني، والقصة مثالا يحتذى بها، ولكن كما يقال:” دوام الحال من المحال”، إذ أتفاجأ بعد أن كتب ومدَّ الله في عمري إلى هذا الزمن باستباحة الكذب واستسهاله عند كثير من الناس في مجتمعنا المحلي خاصة والمجتمعات العربية عامة، وكأن من يكذب ليس مرتكبا مخالفة شرعية صريحة، ولا ورد فيه نهي من الشارع، فهم يسمونه بأسماء مختلفة تناسب نفسياتهم، فعند فئة من عوام الناس يسمونه كذبة بيضاء أو إشاعة بهدف الضحك والسخرية والتسلية على النفوس، وعند النساء، مجرد كلام نسوان، أو كلام (معصرات)، وعند من يعرفون ب (المشاهير) النشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي والسوشل ميديا، بهدف زيادة المتابعين لهم وتحقيق أعلى نسبة من المتابعات؛ لكسب عائد مادي إليهم، أما فئة الإعلاميين في مختلف الوسائل الإعلامية فنجدهم يطلقون على الأخبار الكاذبة (سَبْقٌ صَحَفِيّ) بهدف تحقيق شهرة إعلامية، وجلب متابعين لوسائلهم الإعلامية، مع علم تلك الفئات أن الكذب والتدليس آفةٌ دخيلة على مجتمعنا الإسلامي، وكم تسببت هذه العادة الممقوتة غير الحضارية في حدوث خصومة وقطيعة رحم بين الأقارب والفتنة والتناحر بين الناس بعضهم بعضا، والخصام بين الجيران.
نعم، هنا نخلص إلى أننا مهما أطلقنا على الكذب صفات تجميلية ومسميات برَّاقة فإنه سيبقى كذبا محرما شرعا ومذموما وممقوتا وسيحاسب عليه فاعله يوم القيامة حسابا عسيرا، ولله در الشاعر العربي القائل:
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد.
وتذكر أيها الغافل وأنت على أعتاب دخول شهر الله الحرام “ذي الحجة” التي يتضاعف فيها أجر الأعمال الحسنة للإنسان، كما تتضاعف فيها سيئات الأعمال المخالفة لشرع الله، قوله تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)-[سورة: هود]. وقول رسولنا الكريم- صلّى الله عليه وسلّم:(ويلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بالحدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ القوْمَ فيَكَذِبُ ويلٌ لَهُ ويلٌ لَهُ). أخرجه أبو داود.
وختاماً نقولها لكل ذي لبّ؛ “مرحا بذي الحجة.. وبعدا وسحتا لهذه العادة الذميمة”.