بين المحرقة والنكبة
لولوة القلهاتي
بين محرقة الهولوكوست، ونكبة فلسطين، سالت دماء غزيرة عزيزة على الربّ الخالق، وما بين ادّعاء مظلومية اليهود المزعومة، ومظلومية العرب المعلومة، مرّت ٨٠ سنة، كَفَّرَتْ فيها أوروبا عن سيئاتها تجاه يهودها الأشكناز، وارتكبت سيئات أكثر وأشدّ عنفاً وساديّةً تجاه العرب دون أن يرفّ لساستها وقادتها جفن، أو تطرف لهم عين، أو يخلج فيهم عِرْق، ودفعت بالطرفين إلى زقاق ضيق اسمه فلسطين، ليبدأ الطرفان: المطرود من الغرب جَبْراً، والمغلوب من الغرب قَهراً، بالصراع المرير، والتدافع العنيف الذي تُرِكَ فيه الطرفان في حلبة صراع الديَكة ليصرع أحدهما الآخر، مع تشجيع الطرف اليهودي، وتمهيد الطرق له، والتغاضي عن جرائمه، حتى تجاه شخصيات أممية وبريطانية تم التضحية بها فداءً على مذبح داوود في تفجير فندق داوود الشهير في القدس. بقي الصراع تتداوله أطراف ومنظمات وحكومات تحت شعارات ومسميات لم تكن نزيهة ولا عادلة. تحرير مزعوم لم يتحقق قط، ودولة فلسطينية عتيدة لم يبزغ فجرها أبداً. وما سُمّي باتفاق أوسلو سيّء الذِّكر لم يكن سوى خديعة أخرى أضيفت للخديعة الكبرى قبلها والمُسماة اتفاق سايكس بيكو، لم يكن للفلسطينيين فيه دور سوى أنهم كانوا (شاهد ما شافش حاجة) مدعوّين لحفل توقيع معاهدة سلام لم يشاركوا في وضع بنودها، ولم يكن لهم دور فيها سوى وضع تواقيعهم (تواقيع العار) على ورق صار فيما بعد أداة ضغط إضافية على الشعب الفلسطيني، وسلاح قتل إضافيّ وُجّهَ إلى صدور المقاومين، وجرّافات إضافية جرفت المزيد من أراضي فلسطين التاريخية، وقيد إضافي كبّل الدول العربية عن الحركة بأيّ شكل من أشكال الدعم أو العون للفلسطينيين.
أوسلو سحبت كل أوراق القضية الفلسطينية من أيدي الفلسطينيين وجعلتها في أيدي إسرائيل وأطراف أممية منخرطة ومتدخلة في الصراع بشكل سافر لصالح الجانب الإسرائيليّ، مما أفقد الفلسطينيين أيّ أملٍ في نجاح سعيهم لعيش حياة كريمة حرة على أرضهم ضمن دولة تضمن لهم حقوق المواطنة الكاملة كأيّ شعب طبيعيّ في العالم. هذا الطريق المسدود والحقوق المسلوبة واليأس الذي خيّم على نفوس الفلسطينيين في الداخل وفي الشتات جعل المقاومة المسلحة تحت الراية الإسلامية والمشروعية الإسلامية هي الحلّ الأمثل والأكثر ملائمة لوضعٍ متأزم ليس له نفق يسير فيه أصلاً، ناهيك عن وجود ضوء في نهاية النفق. ولأول مرة يكون للمقاومة الإسلامية الفلسطينية اليد العليا في النضال، وتستطيع الإمساك بقضية فلسطين في يدها وحدها وتستعيد الزخم وتستعيد الملف كاملاً ويصبح الفلسطيني هو صاحب الأرض وصاحب القضية والمُدافع والمحامي والمفاوض والإعلامي والمتحكم بغرفة عمليات القتال في الميدان وفي غرف المفاوضات. ويبدو أن هذا الأمر هو الذي جعل كل القوى الغربية والعربية والدولية تقف عاجزة بعد أن أفرغت كل ما في جعبتها من ضغوط سواء بالتدمير أو التجويع أو الحصار أو الحرمان من الدواء والاستشفاء أو الترهيب للمفاوضين وقادة المقاومة الموجودين في الخارج، ولعلّ ما شاهدناه على شاشات التلفزة من فظائع ووحشية يغني عن كثير الكلام هنا.
السابع من أكتوبر أعاد الإسلام إلى المركز العالمي للديانات بعد تشويهه، وحرك قضية فلسطين واحتلالها وجعلها في قلب أولويات الأمم المتحدة بعد طمسها، وأعاد فلسطين وغزة والفصل العنصري والإبادة الجماعية لتكون عناوين رئيسة على شاشات التلفزة وقنوات الأخبار والصحف وعلى مواقع التواصل التي تنشط كمنصات إعلام حر. ليس هذا وحسب، بل أخرج العالم عن صمته وحوّله إلى حالة من الغضب والهياج والصخب الذي لا همّ له إلا فلسطين. ولعلّ ما أخاف الساسة الغربيين والأمريكان والإسرائيليين هو انتفاضة طلاب الجامعات وأساتذتهم، لأن هؤلاء الطلاب هم نُخب المستقبل وقادته، فإذا كان الطالب الجامعي يحمل همّ فلسطين ويعتقد أن بلاده هي من يقوم بتغطية نفقات الإبادة الجماعية وكلفة الحرب وهي المشغّل الرئيس لماكينة الحرب والتخريب والتدمير الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، فإن السياسة الأمريكية الاستعمارية العدوانية في الشرق الأوسط وغيره من بقاع العالم سوف تتغير، وستفقد زخمها وعنفوانها، ولربما تتراجع وتتقلص وترجع إلى حدودها داخل القارة الأمريكية وتنكفئ الولايات المتحدة على نفسها كنَمرٍ جريح انعزل داخل غابته يلعق جراحه بعد قتال مرير مع حيوانات أصغر منه حجماً ولكنها أخفّ حركة وأكثر شباباً وجرأة وتحدياً.
وعلى كل حال فإن الكاتب المصري الشهير محمد حسنين هيكل في حديث له على الجزيرة في برنامج (مع هيكل) قبل سنوات تنبأ ببدء تقلص النفوذ الأمريكي، وأنها- أي الولايات المتحدة – بدأت تشيخ، شأنها في ذلك شأن كل الإمبراطوريات التي سبقتها، وأنها في طريقها للعودة من حيث أتت، ولكن الأمر سيأخذ وقتاً يمتد لعقود ربما ولكنه فعلياً قد بدأ. وإسرائيل مجرد كيان مصنوع ليؤدي مهمةً للغرب، وهذا الكيان أثبتت الأشهر الماضية أنه غير قابل للعيش والحركة، ناهيك عن النموّ والعمل كدولة طبيعية ضمن محيط طبيعي؛ إلا بحبل من الولايات المتحدة وأوروبا. إن كل الأحداث المتلاحقة التي حدثت في الشرق الأوسط والعالم منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م تستدعي مزيداً من النظر في المآلات الجيوسياسية التي تتجه المنطقة والعالم إليها، وعلى الدول العربية أن تعيد تموضعها وتبدأ في فك الارتباط تدريجياً بالغرب ووضع خارطة طريق سياسية واقتصادية وعسكرية استعداداً لتشكل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
ما بين محرقتهم ونكبتنا جرت تغيرات سارت في صالح الدولة الصهيونية بحكم أنها كانت صنيعة محور الحلفاء الذي خرج منتصراً في الحرب العالمية الثانية، ومن ثمّ شكّل العالم وصاغ ظروفاً جيوسياسية تناسبه وترضي غرور المنتصر وتلبّي طموحاته العسكرية والاقتصادية والسياسية بعيداً عن النظام الاستعماري المباشر القديم، الذي استُبدل بنظام استعماري غير مباشر حديث يقوم على الاستعمار بالوكالة وبالاستيلاء على ثروات العالم بالقفاز الناعم الخفيف الأنيق بدلاً عن الحذاء العسكري القبيح الثقيل. واليوم هناك تبدلات كثيرة تجري كان مظهرها الأبرز طوفان الأقصى وحرب أوكرانيا ومحاصرة الجيش الصيني لتايوان، وقبلها انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان والعراق، ولكن النظام الجديد ما تزال معالمه غير واضحة بيد أنه بات مساره شبه محدد، وما يحدث اليوم من محاولات مستميتة من الغرب والولايات المتحدة وحلفائهم من إسناد إسرائيل وإمدادها بأسباب الحياة وتوفير الغطاء العسكري والقانوني لجرائمها ما هو إلا محاولة بائسة لإيقاف التحولات الجارية فعلاً في النظام الدولي الذي سيقضي على هيمنة الولايات المتحدة، لأنه سيكون نظاماً دولياً متعدد الأقطاب، وليس نظام القطبين كما كان الحال أيام الحرب الباردة، ولا نظام القطب الواحد كما هو قائم منذ انفراط عقد الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو وتوحد الألمانيتين.
الأعوام القادمة حُبلى بالتغيرات والهزات السياسية العنيفة، وهو مخاض دموي وتدميري عسير لولادة نظام دولي سياسي جديد، وخلق تحالفات جديدة وهي لربما عملية هدم لا بد منها لبناء شيء جديد.