وقفات تربوية (٣) [كلكم مسؤول عن رعيته]
ثريا بنت علي الربيعية
من أعظم أنواع التكريم الإلهي للإنسان أن أنار له طريق رشده وهدايته، وبيّن له هدفه الوجودي الأساسي ومصيره في هذه الحياة، ولذا سُخّر للإنسان ما في السماوات والأرض؛ لأجل تيسير سبل حمل الأمانة التي كُلف بها نحو ربه، ونفسه، ومجتمعه، كما يقول اللهُ جلّ شأنه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:٧٢]، وتفسيرًا لذلك تأتي مسؤولية القيام بالواجبات وأدائها على الوجه الأكمل في مقدمة المفاهيم المنبثقة عن الأمانة وأبلغ معانيها، وبالتأكيد فإن تحمل المسؤولية عبء ثقيل وأمر عظيم، سواء أكانت على مستوى الفرد أو بشكل جماعي، فهي ليست حصرًا على الجانب التعبدي فقط إنما تشمل كل واجبٍ يقوم عليه صلاح الدين والدنيا، وعليه لا بد أن يُبدي الأفراد الشعور بضرورة إتقان العمل، وتقديرهم قيمة الإخلاص فيه ببذل أقصى الإمكانات، وبشكل مماثل يجب الالتزام بقدر عالي من المعايير الأخلاقية قولًا وفعلًا؛ للحصول على النتائج المرجوة الموازنة بين مصلحة الفرد والمصلحة العامة.
لقد أرشدنا الدين الإسلامي إلى أهمية القيام بالواجب بغض النظر عن تفاوت المسؤوليات، وحدود صلاحيات العمل، كما في التوجيه النبوي عن الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام: (ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته…)، فكل منا حافظٌ مؤتمنٌ على رعيته، مما يستوجب الوفاء بحقوق الناس المادية والمعنوية، وبناء على ذلك يستحضر الهمة والأجر الأخروي في القيام على شؤون أمانته بغض النظر عن الراتب المادي.
لا مناص من القول إننا جميعًا سنكون على محك المحاسبة والمساءلة عن درجة التزامنا بهذه الأمانة والتكاليف، فالتشريف حتمًا يستلزم التكليف؛ وكلّما ارتفعت مكانة المسئول عظُم أمر أمانته.
في حقيقة الأمر تستوقفنا كثيرًا من الأحيان مواقف متفاوتة صار فيها أمر التهاون وتضييع الأمانة مشهودًا في واقعنا على مختلف الأصعدة، سواء فيما يتعلق بالأسرة أو ما يتعلق بالمؤسسات، فضلًا عن تهرب الأشخاص ذوي المسؤولية الإدارية بتحميل الآخرين والظروف الخارجية كذريعة للفشل، والنأي بالنفس عن المؤاخذة، ولعلّ مقام المسؤولية لديهم يتوقف عند إصدار الأوامر، ورفع الصوت بشعارات التفاني دونما إدراك لحس الواجب المهني. وما عاد ذاك الموظف المتكاسل ينجز عمله في أكمل صورة، وكذا الصورة تتكرر واقعًا مع طلبة العلم المتقاعسين، ممن يرضى بتحصيل أدنى الحاصل من الدرجات.
وعلى النظير كم من مُراجع يشتكي كثرة التردد على بعض المؤسسات الخدمية، فضلًا عن ما يتلقاه من التسويف عشرات المرات لأجل معاملة بالإمكان إنجازها لحظيًا، قِس على ذلك كل النماذج، وصور قلة الوعي بالأمانة الوظيفية، وكل ما نراه في الحقيقة له من التداعيات السلبية على كيان المجتمع؛ بما فيها زعزعة الثقة بين أفراده، ومواجهة ضعف الإنتاجية، وقلة تطوير بيئة العمل.
لهذا يتطلب منا وقفة توجيه وتقييم لإدراك قيم الأمانة في العمل ومدى فاعليتها، ولا يفوتنا أن ننوه بحال بعض الأسر التي استقالت عن مهامها، وانحصر دور الوالدين غالبًا على توفير الماديات لأبنائهم؛ متعللين بالانشغال بالأمور المعيشية، فما صارت الأسرة تؤتي ثمار التربية والإرشاد كما كانت قديمًا.
على العكس من ذلك فإنّ حُسن القيام بالمهمات بكل إتقان، واستحضار أمانة الواجب يعد معيارًا جوهريًا لتقييم العزم والثبات في النفوس، واستشعار نشوة الإنجازات، وبالتالي يكسب المرء ثقة الناس وتقديرهم لعمله، وهكذا يقدم المرء قيمة مضافة لنفسه وأهله ومجتمعه.
ومن هذا المنطلق نحن بحاجة اليوم إلى أن يعيد كل منا النظر في أدائه للمسؤوليات المنوطة به، بل يستحث الخطى من أجل أن يعيد التوازن في العمل من الانهزام إلى الالتزام؛ سعيًا لتصل مؤسساتنا إلى درجة من الإتقان، بدءًا من الأسرة اللبنة الأولى لقيام المجتمع، والتي يعوّل عليها أولًا في غرس قيمة المسؤولية، وحث النشء على التزام فروضهم، ومشاركتهم تبعات الواجبات؛ بتهيئتهم لإدارة جزء من المهام ضمن نطاق الأسرة، ثمّ تباعًا يتوالى دور المؤسسات التعليمية لترسيخ قيمة العمل والإتقان في نفوس طلابهم، وكذلك بقية المؤسسات المجتمعية، بما يكفل تحقيق أرضية صامدة مع كل شرائح المجتمع، أمام التحديات التي قد تعصف بها، وبهذا تكون معولًا للإصلاح والبناء في شتى الميادين.