هنا جَدِّي ..
ناصر بن خميس الربيعي
في هذه الأرض الخضراء انغرست قدم جَدّي لتُنْبِتَ لنا نخلاً باسقاتٍ ذات أكمام، لا تزال صورته تطوف معي وأنا أتجوّل بين النخيل التي تركها لنا، وهي تتكئُ على بعضها بعضاً مؤذنةً بقرب نهايتها ونفاد وقتها إلا أنها محظوظةٌ أكثر منه فقد رحل عنها وعنا منذ عشرات السنين.
رحل جدي بعد أن سقط تحت نخلةٍ لم يصلْ إليها الماء محاولاً دفعه إليها في ليلةٍ لم أرَ أَحْلَكَ منها ظلمةً؛ بعدها، وكما أُحَمْلِقُ الآن بنظري في هامات هذه النخيل بقيت بغلالها؛ فقد شُغِلتْ الأسرة كلها بمرضه جرّاء تلك السقطة لتتابع الأمراض عليه، وكأنها وجدت فرصتها لتنقضّ على تلك الجثة تنهشها من كل جانب.
نعم الجميع كان مشغولاً ومندهشاً لسرعة الأحداث، حتى نطق وهو على سريره – رحمه الله – كيف القيظ؟ جديتوه النخل؟
كان – رحمه الله – حريصاً على رعاية مزارعه بنفسه؛ إلا أنه في تلك السنة حرمه المرض تلك المهمة ليوصي بها بَنِيْهِ، فكانوا لعهده من الحافظين، والآن لا يزال الأبناء على عهد والدهم – رحمه الله وأمدّ في أعمارهم – يزرعون ما أسقطته الزوابع والمحن من النخيل على الرغم من قلة مردوده المادي إلّا إنهم يتابعون ما زرعه والدهم من شيم الوفاء وردّ الجميل، فقد كانت هذه النخلة معينهم في الأزمات يعيشون مما تجود به عليهم من طلعٍ نضيد يقضون به حاجتهم وأسرهم.
هكذا كانت حياة القرية قبل التمدن ولا تزال على حالها، وإنْ تغيّرت بعض ملامحها ومال نخيلها وتوسّد الكثير منه الأرض؛ لتبقى أجمل ما يعلق في الذاكرة، ونحن اليوم الأحفاد لا نختلف كثيراً عن جدي. النخلة والعناية بها تسرق معظم وقتنا ولنا الفخر في ذلك، فنعم اللص هي، وهكذا زرعوا فأكلنا ، ونزرع فيأكلون بإذن الله تعالى.